فأي معرفة هذه؟ وأي حب لله هذا، الذي يمكن صاحبه أن يرمي بطرفه إلى السماء ويرمي بقلبه إلى الله تعالى كل حياته، فيجعل عمره كله تسبيحا واحدا؟!
هذه هي قمة المعرفة والعبادة، لا ما يدعيه المدعون ويلقلقون به ألسنتهم!
* * وهو شاعر الله.. فله عز وجل كل مدائحه وقصائده، وحبه وفكره وذكره، وخشوعه ودموعه.. بل كل وجوده وحياته، في يومه وليله، وحله وترحاله.
وهو مع ربه عز وجل في غاية الأدب، ينتقي في تصرفاته الحركة والسكون، لأنه في محضره سبحانه. وينتقي للحديث عنه أحسن الكلمات وأبلغ المعاني وأجمل الأساليب. أما حديثه معه سبحانه فله أعلى الكلام وأروعه!
الصحيفة السجادية.. زبور آل محمد (صلى الله عليه وآله) كتاب لم يعرفه الناس!
وأول ما تبهرك فيه قدرة معماره على بناء العبارة العربية، فهو أقدر من أي بليغ تصفه بأنه متمكن من العربية آخذ بناصية مفرداتها وتراكيبها، فمفردات العربية تدور حول الإمام (عليه السلام) كالنجوم حول قطبها، تعرض أنفسها على أنامل فكره أفعالا وأسماء وحروفا وصيغ تعبير، طائعة متواضعة، عسى أن يشرفها شاعر الله فيجعلها آجرة أو لحمة، في صروحه ولوحاته.
الكلمة عند الإمام (عليه السلام) موجود حيوي.. بنفسها، لأنه ينتقيها من أسفاط اللغة كما ينتقي الخبير جواهره ليصوغها ويصوغ بها.
وبمحيطها، الذي يضعها فيه فتحييه ويحييها.
وبخيوط ارتباطها، التي يشدها بها بالكلمات والحروف.
وبأشعتها، التي يمنحها لها، فتشرق بجدلية خاصة في فقراته ومقطوعاته.
والفكرة عنده.. روح تنبض في الكلمة، وتنبض بها، تجئ من أفق أعلى، غني غزير، ينساب في الروح، ويلذ للعقل، ويناغي أوتار النفس.
أفق جمالي.. ينحدر منه كلام الإمام (عليه السلام) بأروع من جمال الورود والنسائم والملكات والحوريات، فهو آت من معدن الجمال الأعلى ومنبعه.
جمال، تفيضه روح علوية لا ترى في الوجود إلا جميلا! فهذا الوجود عندها له رب جميل لا يصدر عنه إلا الجميل، فهي ترى الأشياء بجماله وكماله، ولا ترى ما يعكر جماله حتى خطايا الإنسان، وحتى القوانين والمقادير.
روح جمالية.. ترى النصف الفارغ من الكأس جميلا كالمملوء، وتتحير في أيهما الأجمل ما يفقده الإنسان في مرضه من صحته، أوما يبقى له منها!
إستمع اليه كيف يتكلم مع ربه (إذا مرض أو نزل به كرب أو بلية اللهم لك الحمد على ما لم أزل أتصرف فيه من سلامة بدني، ولك الحمد على ما أحدثت بي من علة في جسدي! فما أدري يا إلهي أي الحالين أحق بالشكر لك، وأي الوقتين أولى بالحمد لك، أوقت الصحة التي هنأتني فيها طيبات رزقك، ونشطتني بها لابتغاء مرضاتك وفضلك، وقويتني معها على ما وفقتني له من طاعتك؟ أم وقت العلة التي محصتني بها، والنعم التي أتحفتني بها تخفيفا لما ثقل على ظهري من الخطيئات) (الصحيفة السجادية الدعاء الخامس عشر).
وانظر إلى جدلية الكلمات بين أنامل فكره حيث يقول (عند الصباح والمساء الحمد لله الذي خلق الليل والنهار بقوته، وميز بينهما بقدرته، وجعل لكل واحد منهما حدا محدودا، وأمدا ممدودا، يولج كل واحد منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه، بتقدير منه للعباد فيما يغذوهم به وينشئهم عليه، فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النصب، وجعله لباسا ليلبسوا من راحته ومنامه، فيكون ذلك لهم جماما وقوة ولينالوا به لذة وشهوة، و خلق لهم النهار مبصرا ليبتغوا فيه من فضله، وليتسببوا إلى رزقه، ويسرحوا في أرضه، طلبا لما فيه نيل العاجل من دنياهم، ودرك الأجل في أخراهم، بكل ذلك يصلح شانهم ويبلو أخبارهم، وينظر كيف هم في أوقات طاعته ومنازل فروضه ومواقع أحكامه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى). (الصحيفة السجادية الدعاء السادس) أرأيت الخلق بالقوة، والتمييز بالقدرة، والحد والأمد، وتناوب الزحف بين الليل والنهار، والفرق بين التغذية والتنشئة، والحركات والنهضات، والتعب والنصب.. والريشة التي تفتح أبواب فكرك على الوجود، وروحك على الخالق، وتملأ حياتك بالحياة، فيما لا يتسع المجال لدراسة فقرة واحدة منه؟!
* *