".. (قل، لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون..) (سورة الأنعام / الآية 50) وهذه هي الصورة المشرقة الواقعية للشخصية النبوية التي يريد الله للنبي أن يقدم بها نفسه إلى الناس، فهو لا يريده كائنا غيبيا يبرز إليهم من خلال الجو الغيبي الضبابي الذي يوحي إليهم بالأسرار الخفية المقدسة للذات بعيدا عن التصور البشري الطبيعي، ولا يريد له أن يبدو في نظرهم شخصية أسطورية تملك في حوزتها كل خزائن الله الذهبية والفضية ونحو ذلك مما يدخل في عالم التقييم المادي بالمستوى الذي يستطيع أن يغرف منها ما يشاء من المال لمن يشاء من الناس، ولا يريده إنسانا يقف بين الناس ليتحدث للناس عن أسرارهم الكامنة في صدورهم وعما ينتظر كل واحد منهم من أحداث المستقبل الخاصة والعامة، على أساس ما يحمل من علم الغيب الإلهي، كما يتصور الكثيرون هذا الدور لشخصية النبي، كما هي شخصية الكاهن الذي كان يمثل بعضا من ذلك.. ولا يريد له الشخصية الملائكية ليأخذ لنفسه دور الملك السماوي الذي يأخذ بألباب الناس فيدهش العقول بأجنحته المتنوعة المتعددة، وقدرته الأسطورية الخارجة عن كل حد.. لأن الله يريد للناس أن يؤمنوا به من خلال رسالته بعيدا عن كل ضغط نفسي أو مادي.. وعن كل ألوان الإغراء الذاتي، أو الاستعراض الانفعالي، الذي يوحي للإنسان بالانجذاب العاطفي، والانسحاق الشعوري.. وهكذا أراده أن يقف بينهم عبدا خاشعا بين يدي الله، لا يملك أية مقومات ذاتية، كبيرة، أو أية قدرات شخصية مطلقة.. رسولا أمينا على الدور الذي أوكله الله إليه فهو ينتظر أمر الله ووحيه في كل صغيرة وكبيرة ليتبعه ويبلغه للناس.. وربما كان الحديث عن الأتباع موحيا بالصفة المطيعة المتواضعة التي تجسدها شخصيته ليكون في ذلك بعض الإيحاء لهم بالطاعة لله من خلال الاستغراق في دور العبد المطيع الذي يتمثل في حركة العبد - النبي، ليتمثل - من خلاله - في شخصية العبد المؤمن.. وإذا كان التوجه الإلهي يفرض على الرسول أن يقدم نفسه إلى الناس بهذه الصفة فقد نجد فيه الدرس الفكري الذي يريدنا أن لا نغرق أنفسنا بالأسرار العميقة التي يريد البعض أن يحيط بها شخصية النبي، ليحصل له اللون الإيحائي الذي يرتفع به فوق مستوى البشر في إمكاناته الذاتية، وقدراته الكبيرة.. بل يعمل على أن يربطنا بصفته الرسالية من حيث أخلاقه وخطواته ومشاريعه المتصلة برسالته.. وذلك هو السبيل للتعامل مع شخصية الأنبياء، والأولياء، بالأسلوب القريب إلى الوعي الإنساني العادي، فيما يمكن للإنسان أن يعيشه ويتصوره ويتمثله في نفسه، ليشعر بأن النبي قريب منه بصفاته البشرية المثلى التي يمكن أن تكون أساسا للتمثل والاتباع والاقتداء.. وفي ضوء ذلك.. نجد في الأبحاث السائرة في هذا الاتجاه، انحرافا عن الخط القرآني الذي يرسمه القرآن للناس في دراستهم
(١٩٩)