ما ذكرنا من الأخبار الكثيرة، فإبقاء هذه الثلاثة على حالها يستلزم إطراح الأخبار الكثيرة، وحملها على التقية مما يأباه نفس الأخبار، فإن من تتبع تلك الأخبار وتأمل فيها يظهر عليه أن ذلك حكم مختص بتلك الأماكن، فإنه لا اختصاص للتقية بهذه المواضع المخصوصة.
وتداول السؤال عن تلك المواضع في ألسنة الرواة، وسؤالهم عن خصوصها، وإنشاء المعصوم (عليه السلام) الحكم معنونا بهذه المواضع، بل وفي بعض الأخبار نفي ذلك عن غير تلك المواضع كصحيحة مسمع " قال: كان أبي يرى لهذين الحرمين ما لا يراه لغيرهما " ينفي ذلك، إذ إنكارهم تعين القصر ليس في خصوص هذه المواضع.
نعم يصح ذلك لو ثبتت التفرقة عند العامة بالنسبة إلى هذه المواضع، وثبت أن الأفضل عندهم الإتمام فيها.
فاحتمال كون تلك الأخبار موافقة للتقية لا يقاوم الجزم بموافقة تلك الأخبار المعتبرة الظاهرة الدلالة لعمل الطائفة المحقة، بل وإجماعهم على ذلك مع كثرتها وأوفقيتها للاعتبار.
فإن قلت: أكثر تلك الأخبار مما امر فيها بالإتمام، وهو يقتضي وجوبه عينا، وأنت لا تقول به، وحمل الأمر على الاستحباب ليس أولى من تقييدها بما لو نوى الإقامة، وأيضا النسبة بينها وبين الأخبار الدالة على عموم التقصير عموم من وجه:
فإنها تدل على الإتمام سواء قصد الإقامة أم لا، وأخبار التقصير يدل على التقصير سواء كان في تلك الأماكن أو غيرها، فما وجه الترجيح. فلم يبق من أدلتكم إلا ما دل صريحا على التخيير، وما دل على الاستحباب صريحا أو تلويحا، وذلك لا يقاوم أدلتنا.
قلت: ما امر فيه بالإتمام بعضها مؤداة بأن ذلك من " الأمر المخزون " و " الأمر المذخور "، وذلك أعم من الإيجاب، وبعضها بالجملة الخبرية المضارعية، وتلك أيضا غير صريح فيه، وبعضها أوامر، سلمنا دلالة الكل على الوجوب لكن المقام كاشفة عن الاستحباب: