____________________
والنطق والتمييز، ولا يصير الإنسان خارجا من جملة البهائم وأسر الهوى إلا بإماتة الشهوات البهيمية، أو بقهرها وقمعها إن لم يمكنه إماتته إياها، فهي التي تضره وتغره وتصرفه عن طريق الآخرة وتثبطه (1)، ومتى أماتها أو قمعها صار الإنسان حرا نقيا (2)، بل يصير إلهيا ربانيا فتقل حاجاته، ويصير غنيا عما في أيدي الناس سخيا بما في يده محسنا في معاملاته. فإن قيل: فإذا كانت الشهوة بهذه المثابة في الإضرار، فأي حكمة اقتضت أن يبتلي الإنسان بها؟ قيل: الشهوة إنما تكون مذمومة إذا كانت مفرطة، وأهملها صاحبها حتى ملكت القوى والحت عليها، فأما إذا أدبت فهي المبلغة إلى السعادة وجوار رب العزة، حتى لو تصورت مرتفعة لما أمكن الوصول إلى الآخرة. وذلك أن الوصول إلى الآخرة إنما هو بالعبادة، ولا سبيل إلى العبادة إلا بالحياة الدنيوية، ولا سبيل إلى الحياة الدنيوية إلا بحفظ البدن، ولا سبيل إلى حفظه إلا بإعادة ما يتحلل منه بتناول الأغذية، ولا يمكن تناول الأغذية إلا بالشهوة. وأيضا فلو لا الشهوة لانقطع بقاء النوع الإنساني، لأن بقاءه إنما يكون بشهوة المباضعة، فإذا الشهوة محتاج إليها ومرغوب فيها، وتقتضي الحكمة الإلهية إيجادها وتزيينها، كما قال تعالى: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين (3) الآية. لكن مثلها مثل عدو يخشى مضرته من وجه وترجى منفعته من وجه، ومع عداوته لا يستغنى عن الاستعانة به، فحق العاقل أن يأخذ نفعه منه، ولا يسكن إليه ولا يعتمد عليه إلا بقدر ما ينتفع به، وما