ولنقدم أمام المقصود مقدمات نافعة:
الأولى: حكم العقل بجواز كل من الفعل والترك في كل أمر لا قبح فيه بحسب عقولنا قبل ورود الشرع به بديهي، إذ المفروض عدم حكم العقل بقبح في أحد الطرفين، وعدم حكم من الشرع فيه أيضا، فلا يكون منع عقلي ولا شرعي في شئ من طرفيه، وليس معنى الجواز العقلي إلا ذلك.
بل يحكم العقل بجوازه الشرعي أيضا، إما لأجل أن الجائز الشرعي مالا حرج في فعله ولا تركه، ولا منع على أحدهما، وهذا كذلك. أو لأن العقل يحكم صريحا بأن الشارع لا يعاقب على فعل أو ترك لم ينه عنه، ولم يحكم فيه بقبح.
وليعلم أيضا: أن من الأمور البديهية أنا لو لم نعلم بوجوب شئ أو حرمته، ولم نظنه، ولم نعثر على دليل علمي ولا ظني، ولا أمارة تدل على الوجوب أو الحرمة، يجوز لنا فعله وتركه، ويمتنع من الشارع عقابنا على أحدهما; لأنه مما يستقبحه العقل، ويذم عليه العقلاء، سيما إذا كان في مقابل احتمال الوجوب احتمال الحرمة أيضا، أو بالعكس. وقد ثبت ذلك بالأدلة القطعية النقلية أيضا من الكتاب والسنة المتواترة والإجماع القطعي.
الثانية: من الأمور البديهية عقلا وشرعا أنه لا يمكن كون شئ مناطا لنا ومأخذا لأحكامنا الشرعية وكوننا مأمورين بأخذ الحكم منه من دون كونه مفيدا للعلم أو الظن، أو من غير العلم بحجيته ومناطيته، أو الظن بذلك.
وبالجملة: لا معنى لكوننا مأمورين بالعمل بشئ معين في جميع الوقائع أو واقعة خاصة من غير جهة ومرجح عقلي أو شرعي لتعينه، وهذا بديهي جدا.
الثالثة: اعلم أنه كما أن طرق حصول العلم بالأحكام الشرعية محصورة، وهي: العقل، والحس - كالسماع من المعصوم - والعادة، والخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة، أو الإجماع القطعي، كذلك طرف تحصيل الظن بالأحكام الشرعية، أو الأمارة التي احتمل كونها مناطا لتحصيلها، التي أمكن كونها مناطا،