والثالث: أن تكون لفظة (من) مرادفة للباء، فإنه من معانيها المشهورة، وقد ذكره الجوهري وابن هشام 1 وغيرهما 2، وتكون لفظة (ما) مصدرية زمانية، كما قالوا في قوله سبحانه: (فاتقوا الله ما استطعتم) 3 ويكون المعنى: فأتوا به ما دامت استطاعتكم.
والرابع: أن تكون لفظة (من) بيانية، إما بيانا للمأتي، كما قاله ابن هشام في قوله سبحانه: (يحلون فيها من أساور) 4 حيث جعل لفظة (من) بيانية لما يحلى به 5، وتكون (ما) مصدرية زمانية أيضا، أو بيانا للموصول، ويكون المعنى:
فأتوا ما استطعتم منه بعضا أو كلا.
ودلالته على مطلوبهم إنما هو إذا كان معنى الحديث أحد الاحتمالين الأولين، أو الشق الثاني من الأخير، وهو غير معلوم فان قلت: المعنى الثالث يوجب جعل (من) بمعنى الباء، وهو مجاز خلاف الأصل، وجعل (ما) مصدرية، وهو أيضا خلاف الأصل، لان الأصل في (ما) أن تكون غير مصدرية، وأيضا تأويل الفعل بالمصدر خلاف الأصل.
وأيضا على الثالث بل الرابع يكون مقتضى الحديث: وجوب الاتيان بالمأمور به، وعدم جواز تركه، وهذا ليس إلا تأكيدا للايجاب الثابت من الامر، والتأسيس أولى من التأكيد.
قلنا: لو سلمنا تجوز لفظة (من) في مرادفة الباء، ولفظة (ما) في المصدرية، وكون (من) حقيقة في التبعيض أيضا، فنقول: المجاز لازم على الأولين أيضا، إذ يجب أن يكون المعنى: إذا أمرتكم بشئ ولم يتيسر الاتيان بالكل، فأتوا بعضه