فإن في مثل: الماء في الكوز مفهوم الماء ملحوظ في الذهن مستقلا، ومفهوم الكوز أيضا كذلك.
ولكن لفظة " في " ليس لها مفهوم مستقل في الذهن في عرضهما، وإلا لزم أن يكون معنى اسميا مستقلا بالمفهومية، بل لا وجود له فيه إلا بوجود منشأ انتزاعه وهو الماء والكوز المتخصصين بخصوصية كون أحدهما ظرفا والآخر مظروفا، فلفظة " في " تدل على تلك الخصوصية المتقومة بهما، وليست هذه الخصوصية تحت لفظة " في " بحيث تكون تحت كل واحد من الألفاظ الثلاثة معنى مستقلا مغايرا لما في تحت الآخر، بل تلك الخصوصية في تحت لفظ الماء والكوز والدال على كون تلك الخصوصية في تحتهما إنما هو لفظ " في " فيكون حال الحرف على هذا حال الاعراب، فكما أن الرفع والنصب يدلان على معنى في تحت مدخولهما وهي الفاعلية والمفعولية لا على معنى " في " تحتهما فكذلك الحرف.
فعلى هذا يكون الحرف دالا على الدال كالاعراب لا أنه دال بنفسه، وهذا معنى قولهم: إن الحرف يدل على معنى في غيره، والمراد أن الحروف كالأعاريب علامات على دلالة متعلقاتها على خصوصيات معينة من الابتدائية والانتهائية والظرفية وأمثالها، كما أن الأعاريب علامات على دلالة مدخولها على خصوصيات متعينة من الفاعلية والمفعولية وغيرهما.
إن قيل: على هذا يلزم أن تكون الحروف مهملة ولا يكون لها معنى.
قلت: إنه يكفي في خروجها عن الاهمال وكونها دالة على المعنى وموضوعة له هذا القدر من الدلالة، وهو كونها دالة على الدال، وكون معانيها تحت لفظ آخر ومن خصوصيات مفهوم آخر بحيث لو لم يكن الحرف لما استفيد منه تلك الخصوصية.
وعلى هذا فتكون الحروف موضوعة لا مهملة، ويصح النزاع في أن الموضوع له فيها عام أو خاص أو المستعمل فيه عام أو خاص بخلاف ما لو كانت مهملة، فإنه لا يصح هذا النزاع.