الواقع على مؤداها، وعدم جواز الاحتياط مع العلم بالواقع تفصيلا إنما هو من الآثار العقلية المترتبة على العلم بالواقع، فمع العلم بالواقع لما كان احتمال الخلاف منسدا عند العالم لا موضوع للاحتياط، ومع قيام الأمارة لما كان الاحتمال موجودا فيتحقق موضوع الاحتياط، وإنما الإشكال في جواز العمل على طبق الحالة السابقة إذا لم يكن عمله بها من باب الاحتياط، بل من باب التعويل على الاستصحاب والالتزام بأخبار " لا تنقض اليقين بالشك ". ووجه الإشكال هو أن أدلة حجية الاستصحاب بناء على القول بكونها من باب الأخبار منصرفة عن هذا الشك فلا يجوز التعبد بالحالة السابقة بمقتضى الأخبار إلا بعد الفحص واستقرار الشك، وفيما كان الاستصحاب نافيا حاله كحال البراءة في عدم جواز العمل به إلا بعد الفحص، لأن الأدلة الدالة على عدم جواز التمسك بأصالة البراءة قبل الفحص من الإجماع والعلم الإجمالي وغيرهما جارية في الاستصحاب النافي أيضا.
وأما البراءة العقلية فلا إشكال في عدم جواز الرجوع إليها إلا بعد الفحص، لأنه بمجرد احتمال التكليف يحتمل الضرر في مخالفته، ودفع الضرر المحتمل واجب بحكم العقل إلا أن يكون مؤمن من العقاب والضرر، والمؤمن من العقاب الذي هو أمر ممكن ليس إلا قبح صدوره عن الحكيم، وقبحه ليس إلا فيما لم يبين التكليف، أو بينه وبذل المكلف جهده في تحصيله ولم يصل إليه، وأما إذا بينه على النحو المتعارف من تبليغ الأحكام الكلية والقوانين العامة وتمت الوظيفة المولوية وصلت النوبة إلى العبد ووظيفته أن يصير بصدد تحصيل ما أراده المولى منه، والفحص عنه على النحو المتعارف واستعلامه عن المواضع المعدة لبيانه المختلفة باختلاف الأزمان والأشخاص، فإذا قصر العبد في وظيفته وما صار بصدد تحصيل مراد المولى على النحو المتعارف وكان في الواقع تكليف وخالفه من جهة جهله كان مستحقا للعقاب، ولم يقبح من المولى عقابه، فلذا لا يجوز الرجوع إلى البراءة العقلية إلا بعد الفحص عن التكليف عن مظانه.
والحاصل: أن العقل حاكم بقبح العقاب بلا بيان، وموضوعه وهو العقاب بلا