وأما " العقل " فتقريره من وجهين:
أحدهما: هو أن العقل مستقل بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته من جهة العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته، ولم تكن هناك حجة على حكمه تفريغا للذمة بعد اشتغالها، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلا عن بعض الأصحاب (1).
والجواب: أن لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي مسلم فيما إذا لم ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي. وهنا قد انحل العلم الإجمالي، إذ كما أنا نعلم بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في الشريعة كذلك نعلم بثبوت الطرق والأمارات المثبتة للتكاليف بالمقدار المعلوم بالإجمال، فإن كل واحد من هذه الأمارات والأصول وإن لم يكن معلوما بالتفصيل حتى يوجب الانحلال الا انا نعلم بثبوت التكاليف فيها بالمقدار المعلوم بالإجمال، مثلا إذا علمنا إجمالا بوجود ألف تكليف واقعي في المشتبهات وعلمنا بثبوت عشرة آلاف من الطرق والأمارات، وعلمنا إجمالا أيضا بأن المصيب منها ألف أو أزيد، فحينئذ لا علم بثبوت تكاليف غير التكاليف الفعلية التي في موارد الطرق والأمارات.
إن قلت: نعم، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالواجبات، لأنه لو كان العلم بها مسبوقا بالعلم بها لا يوجب الانحلال، إذ يصير المقام - حينئذ - من قبيل ما لو علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثم تنجس أحدهما المعين بسبب جديد، وعلمنا بتنجسه تفصيلا بذلك السبب الجديد، فكما أن هذا العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما المعين لا يخرج الآخر عن طرفية العلم الإجمالي الأول، ولا يوجب عدم وجوب الاجتناب عنه، بل بحاله في وجوب الاجتناب كما لو لم يكن هذا العلم التفصيلي، وإلا لزم رفع التكليف بالاجتناب عن أحد فردي المعلوم نجاسة أحدهما إجمالا بتنجيس الآخر، فكذلك في المقام العلم التفصيلي بوجود واجبات ومحرمات بمقتضى الأمارات والأصول لا يوجب انحلال العلم الإجمالي بوجود