المقام فلفظة " من " موضوعة لمفهوم الابتداء والموضوع له هو المفهوم الكلي واستعملت في هذا المفهوم الكلي أيضا، لكن لا بما أنه ملحوظ بالنظر الاستقلالي، بل بما أنه ملحوظ بالنظر الآلي.
فالخصوصية إنما نشأت من ناحية الاستعمال حيث إنها استعملت لتعرف حال الغير، وبما أنها حالة وآلة لملاحظة حال الغير كما قيل: إن الحرف تدل على معنى في غيره (1)، وذلك لأن في مثل: سرت من البصرة إلى الكوفة السير لم تلاحظ مطلقا بل مقيدة ومتكيفة بما أنه من البصرة، وكذلك البصرة لم تلاحظ مطلقا بل بما أنها ابتداء السير، وكذلك الكوفة لم تلاحظ مطلقا بل بما أنها منتها للسير. فلفظة البصرة والكوفة تدلان على نفس مدلولهما وهما البلدان المعينان، وأما تكيفهما بكيفية كونهما مبدأ ومنتها للسير، فلا تفهم إلا من لفظة من وإلى، وهذا معنى قولهم الحرف تدل على معنى في غيره، وهكذا غيرهما من الحروف، فالوضع والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف عام، والخصوصية إنما نشأت من قبل الاستعمال.
والحاصل: أنه كما في الخارج أمور موجودة لا في الموضوع كالجواهر وأمور موجودة في الموضوع كالأعراض المتأصلة مثل السواد والبياض وأمور لا وجود لها إلا بوجود منشأ انتزاعها كالفوقية وأمثالها فكل من القسمين الأولين موجود خارجي وله ما بحذاء في الخارج إلا أن القسم الأول مستقل في وجوده بلا حاجة له إلى موضوع، والقسم الثاني محتاج إلى الموضوع في وجوده بخلاف القسم الثالث فإنه لا وجود له أصلا وليس له ما بحذاء في الخارج، وإنما الموجود فيه هو منشأ انتزاعه.
كذلك في الذهن بعض الأمور ليس لها وجود أصل في الذهن وليست لها لحاظ مستقل، وإنما هي ملحوظة تبعا للغير وآلة وحالة لتعرف حال الغير، ولا وجود لها إلا بوجود منشأ انتزاعها فيه، والمعاني الحرفية من هذا القبيل