كالأمر بالإطاعة فكذلك قبح التجري لا يستلزم حرمته شرعا، ولا يمكن أن يكون النهي عنه مولويا، بل لابد أن يكون إرشاديا كالأمر بالانقياد.
توضيحه: أن النهي إذا كان ملاكه معلوما كما إذا قال المولى لعبده، لا تشرب هذا المائع، لأنه مهلك، أو فهم بوجه آخر أن المقصود من النهي عن الفعل عدم وصول المضرة الكامنة فيه إلى المكلف فهذا النهي إرشادي، ولا يترتب على مخالفته شيء سوى المضرة الكامنة في الفعل، كما أن الأمر بفعل علم أن ملاك الأمر به وصول المنفعة الكامنة فيه إلى المكلف إرشادي لا يترتب على موافقته شيء سوى المنفعة الكامنة فيه، كما إذا قال الطبيب للمريض: اشرب هذا الدواء، لأنه نافع. والنهي عن المعصية - كالأمر بالطاعة - من هذا القبيل، لأن ملاك النهي في الأول هو عدم وصول العقوبة التي [هي] مترتبة على المعصية إلى المكلف كما أن ملاك الأمر في الثاني هو وصول المثوبة المترتبة على الإطاعة إلى المكلف فمن هذه الجهة تكون الأوامر والنواهي الشرعية الواردة في باب الإطاعة والمعصية إرشادية لا مولوية، وبوجه آخر أن وجوب تمام الواجبات وحرمة تمام المحرمات لابد أن تنتهي إلى واجب بالذات ومحرم بالذات دفعا للدور والتسلسل، إذ كل ما بالغير لابد وأن ينتهي إلى ما بالذات، فوجوب الإطاعة وحرمة المعصية ذاتيان لهما بحكم العقل وليسا عرضيين مجعولين لهما بحكم الشرع، وإلا يلزم الدور والتسلسل.
وإذا تبين حال المعصية الحقيقية وأنه لا يمكن أن يكون النهي عنه مولويا وحرمته شرعيا فكذلك التجري أيضا، إذ لا اشكال في قبح التجري عقلا، إلا أن قبحه عقلا لا يستلزم حرمته شرعا بقاعدة الملازمة، لما مر من أن المورد غير قابل للحكم المولوي الشرعي.
ولا يخفى أن التجري له مراتب مختلفة بالشدة والضعف، فإن نفس تصور فعل القبيح ليس تجريا، ولكن الميل إليه والرغبة وهيجان النفس والعزم على فعله والشوق إليه كلها من مراتب التجري وإن كان معفوا عنه ما لم يصدر عنه فعل