الشريعة قد بلغت أضعاف أضعاف تلك الأمور، فكان اللازم باطلا بالضرورة الدينية وإجماع الأمة، ويجاب ثانيا بأن قوله: إلا أن تطوع ينفي وجوب الواجبات ابتداء، لا الواجبات بأسباب يختار المكلف فعلها كدخول المسجد مثلا، لأن الداخل ألزم نفسه الصلاة بالدخول فكأنه أوجبها على نفسه، فلا يصح شمول ذلك الصارف لمثلها. ويجاب ثالثا بأن جماعة من المتمسكين بحديث ضمام ابن ثعلبة في صرف الامر بتحية المسجد إلى الندب قد قالوا بوجوب صلوات خارجة عن الخمس، كالجنازة، وركعتي الطواف، والعيدين، والجمعة، فما هو جوابهم في إيجاب هذه الصلوات؟ فهو جواب الموجبين لتحية المسجد.
(لا يقال) الجمعة داخلة في الخمس لأنها بدل عن الظهر. لأنا نقول: لو كانت كذلك لم يقع النزاع في وجوبها على الأعيان، ولا احتيج إلى الاستدلال لذلك، إذا عرفت هذا لاح لك أن الظاهر ما قاله أهل الظاهر من الوجوب. (والحديث) يدل على مشروعية التحية في جميع الأوقات، وإلى ذلك ذهب جماعة من العلماء منهم الشافعية، وكرهها أبو حنيفة والأوزاعي والليث في وقت النهي، وأجاب الأولون بأن النهي إنما هو عما لا سبب له، واستدلوا بأنه (ص) صلى بعد العصر ركعتي الظهر، وصلى ذات السبب، ولم يترك التحية في حال من الأحوال، بل أمر الذي دخل المسجد وهو يخطب فجلس قبل أن يركع أن يقوم فيركع ركعتين، مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية، ولان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع خطبته وأمره أن يصلي التحية، فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم هذا الاهتمام، ذكر معنى ذلك النووي في شرح مسلم. والتحقيق أنه قد تعارض في المقام عمومات النهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة من غير تفصيل، والامر للداخل بصلاة التحية من غير تفصيل، فتخصيص أحد العمومين بالآخر تحكم، وكذلك ترجيح أحدهما على الآخر، مع كون كل واحد منهما في الصحيحين بطرق متعددة، ومع اشتمال كل واحد منهما على النهي أو النفي الذي في معناه، ولكنه إذا ورد ما يقضي بتخصيص أحد العمومين عمل عليه، وصلاته صلى الله عليه وآله وسلم سنة الظهر بعد العصر مختص به، لما ثبت عند أحمد وغيره ممن قدمنا ذكرهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قالت له أم سلمة: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا ولو سلم عدم الاختصاص لما كان في ذلك إلا جواز قضاء سنة الظهر لا جواز جميع ذوات الأسباب، نعم حديث يزيد بن الأسود الذي سيأتي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للرجلين: