الاطمئنان، ولا يشك عاقل في أن النفس حال عدم تجويز الكبائر أقرب منها إلى ذلك عند تجويزها، وقد يبعد الأمر عند الشئ ولا يرتفع كما يقرب من الشئ ولا يقع عنده، ولا يرى أن عبوس (1) الداعي إلى
طعامه وتضجره منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول
طعامه، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفرا، وكذلك طلاقة وجه واستبشاره وتبسمه يقرب من الحضور والتناول وقد يرتفع عند ذلك، ولا يقال: هذا يقتضي أن لا تقع الكبائر عنهم حال النبوة والإمامة، وأما قبلها فلا لزوال حكمها
بالتوبة المسقطة للعقاب والذم ولم يبق وجه يقتضي التغير، لأنا نقول: إنا لم نجعل المانع عن ذلك استحقاق العقاب والذم فقط، بل ولزوم التنفير أيضا، وذلك حاصل بعد التوبة، ولهذا نجد ذلك من حال الواعظ الداعي إلى الله وقد عهدنا منه الإقدام على كبائر الذنوب وإن تاب عنها، بخلاف من لم يعهد منه ذلك (2)، والضرورة فارقة بين الرجلين فيما يقتضي القبول والنفور، وكثيرا ما نشاهد أن الناس يعيرون من عهد منه القبائح المتقدمة وإن حصلت منه التوبة والنزاهة ويجعلونها نقصا وعيبا وقدحا، غاية ما في الباب أن الكبائر بعد التوبة أقل تنفيرا منها قبل التوبة لا يخرج بذلك عن كونها منفردة، فإن قلت فلم قلتم: إن الصغائر لا
تجوز عليهم مطلقا ولا تنفير فيها؟ قلت: بل التنفير حاصل فيها أيضا عند التأمل، لأن اطمئنان النفس وسكونها إنما هو مع الأمن عن ذلك لا مع تجويزها، والفرق بأن الصغائر لا توجب عقابا وذما ساقط، لأن المعتبر التنفير كما ذكرنا مرارا، ألا ترى أن كثيرا من المباحات منفردة ولا ذم ولا عقاب فيها
____________________
(1) بضم العين، التقطب (2) ومن هذا الباب ما يذكر في الفقه في باب الصلاة حيث يشترط أكثر الأصحاب: أن لا يكون الإمام محدودا بالحد الشرعي وأن لا يكون مبتلى بأمراض منفردة للقلوب ولا يكون غير طاهر المولد ونحوها من الأمور التي تنفر الناس من المتصف بها.