لا يتأمل فيه أحد إذا راجع وجدانه، ولا حاجة إلى إقامة البرهان، بل ربما يكون إقامة البرهان في كثير من المطالب الوجدانية موجبة لخفاء المطلب، فإنه ربما يكون أصل المطلب أمرا واضحا ومقصود الطرفين بيانه، فيكون بيان أحدهما وافيا وبيان الآخر قاصرا، فيتوهم أن بينهما اختلافا بحسب المعنى والمراد.
والحال أنه ليس بينهما اختلاف فيه، بل مقصودهما شيء واحد، فلو أبقى المطلب على حاله ولم يجعل في قالب العبارة ربما كان أوضح وأجلى، مثلا المعاني الحرفية لا إشكال ولا خفاء في أنها معان ربطية يوجدها المتكلم بين المعاني الاسمية المستقلة التي لا ارتباط بينها في نفسها، وربما يعرفها كل أحد إذا راجع وجدانه، ولكن لما صاروا بصدد إثباتها بالصناعات العلمية صار ذلك سببا لخفائها، وهكذا الحال في المطالب والمقامات كما لا يخفى.
ثم إن الأشاعرة (1) استدلوا على مغايرة الطلب والإرادة بوجوه:
منها: أن الآمر قد يريد اظهار عذره في عدم طاعة المأمور فيأمره ولا يريد وقوعه منه، بل قد يكون منافيا لغرضه.
ومنها: صحة قولنا: أريد منك الفعل ولا آمرك به.
ومنها: أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان ولم يرده منه لامتناعه في حقه، لأنه يلزم تعلق إرادته تعالى بغير المقدور، وهو ممتنع وإن جاز تعلق الطلب بغير المقدور. وبيان هذا الوجه هو: أنه تعالى لو أمر الكافر بالإيمان وأراد منه الإيمان إما أن يعلم بأنه لا يؤمن أو لا، والثاني مستلزم للجهل تعالى الله عن ذلك، وإن علم بأنه لا يؤمن فإما يمكن مع ذلك إيمانه أو لا، والأول مستلزم لانقلاب علمه بالجهل تعالى عن ذلك، والثاني مستلزم لأن لا يكون قادرا على الإيمان، وإذا لم يكن قادرا عليه فلا يمكن تعلق إرادته تعالى بإيمانه، لأن تعلق الإرادة بغير المقدور محال، ولكن تعلق الطلب بغير المقدور ليس بمحال.