فإن احتج المخالف بما يروونه عن النبي ص من قوله:
الراجع في هبته كالراجع في قيئه، وبلفظ آخر: الراجع في هبته كالكلب يعود في قيئه.
فالجواب عن ذلك: أن هذه كلها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ولا يثبت بمثلها الأحكام، وهذا الخبر معارض بأخبار كثيرة يروونها عن النبي ص من جواز الرجوع في الهبة، وإذا سلم هذا الخبر على ما فيه فالمراد به الاستقذار لا التحريم، لأن ذلك مستقذر مستهجن، ألا ترى أن الكلب لا تحريم عليه؟ فأما الخبر الآخر الذي يتضمن ذكر الكلب فهو وإن كان مطلقا يرجع إلى الكلب لأن الألف واللام يحملان على العهد، وليس هاهنا جنس يعهد منه الرجوع في قيئه إلا الكلب فلا فرق بين أن يقول: كالعائد في قيئه، وبين أن يقول: كالكلب يعود في قيئه، على أنا لو حملنا لفظة " العائد " على الجنس والعموم لدخل فيه الكلب لا محالة فلا يجوز حمل العود على التحريم، لأن ذلك لا يتأتى في الكلب فلا بد من حمله على الاستقذار والاستهجان وهو متأت في كل عائد.
فإن قيل: كيف يجوز أن يجتمع جواز الرجوع في الهبة مع القول بأنها تملك بالقبض؟
قلنا: غير ممتنع اجتماع ذلك، كما أن المبيع إذا شرط فيه الخيار مدة معلومة كان مملوكا بالعقد، وإن كان حق الرجوع فيه ثابتا.
فإن قالوا: الملك مع ثبوت حق الخيار ناقص أو غير مستقر.
قلنا: نحن نقول في ملك الموهوب مع ثبوت حق الرجوع مثل ما يقولونه حرفا بحرف.
مسألة في الهبة أيضا: ومما انفردت به الإمامية: أن من وهب شيئا في مرضه الذي مات فيه إذا كان عاقلا مميزا تصح هبته ولا يكون من ثلثه، بل يكون من صلب ماله.
وخالف باقي الفقهاء في ذلك، وذهبوا إلى أن الهبة في مرض الموت محسوبة من الثلث، دليلنا الاجماع المتردد، ولأن تصرف العاقل في ماله جائز وما تعلق للورثة بماله وهو حي حق فهبته جائزة، ولذلك صح بلا خلاف نفقة جميع ماله على نفسه في مأكل ومشرب.
فإن قيل: أي فرق بين الهبة في المرض والوصية في المرض؟
قلنا: الهبة حكمها منجز في الحال وما تعلق في حال الحياة حق لوارث المال المورث، والوصية حكمها موقوف على الوفاة، وبعد الوفاة يتعلق حق الورثة بمال المورث فوجب أن