الأرض وما ثم شئ أقوى من الهواء إلا الإنسان حيث يقدر على قمع هواه بعقله الذي أوجده الله فيه فيظهر عقله في حكمه على هواه فإنه لقوة الصورة التي خلق عليها الرياسة له ذاتية ولكونه ممكنا الفقر والذلة له ذاتية فإذا غلب فقره على رياسته فظهر بعبوديته ولم يظهر لربوبية الصورة فيه أثر لم يكن مخلوق أشد منه وهكذا أخبر صلى الله عليه وسلم على ما حدثناه محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم التميمي الفاسي قال حدثنا عمر بن عبد المجيد الميانشي حدثنا عبد الملك ابن قاسم الهروي حدثنا محمود بن القاسم الأزدي حدثنا عبد الجبار بن محمد الجراحي حدثنا محمد بن أحمد المحبوبي حدثنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا يزيد بن هارون حدثنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فقال بها عليها فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال فقالوا يا رب هل من خلقك شئ أشد من الجبال قال نعم الحديد فقالوا يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الحديد قال نعم النار قالوا يا رب فهل من خلقك شئ أشد من النار قال نعم الماء قالوا يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الماء قال نعم الريح قالوا يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الريح قال ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله هذا حديث غريب ففي هذا الحديث علم جوارح الإنسان بالأشياء ولهذا وصفها الله تعالى يوم القيامة بأنها تشهد فقال يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فالهواء موجود عظيم وهو أقرب الأركان نسبة إلى نفس الرحمن فهو أحق بهذا الباب والهواء هو نفس العالم الكبير وهو حياته وله القوة والاقتدار وهو السبب الموجب لوجود النغمات بتحريك الآلات من حركات الأفلاك وأغصان الأشجار وتقاطع الأصوات فيؤثر السماع الطبيعي في الأرواح فيحدث فيها هيمان وسكر وطرب فالهواء إذا تحرك أقوى المؤثرات الطبيعية في الأجسام والأرواح وقد جعل الله هذا الركن أصل حياة العالم الطبيعي كما جعل الماء أصل الصور الطبيعية فصورة الهواء من الماء وروح الماء من الهواء ولو سكن الهواء لهلك كل متنفس وكل شئ في العالم متنفس فإن الأصل نفس الرحمن وجعله الله لطيفا ليقبل سرعة الحركة فإن العالم المتنفس يحتاج في وقت إلى نفس كثير وفي وقت إلى نفس قليل ألا ترى الإنسان في زمان الصيف إذا حمي بدنه حرك الهواء بالمروحة ليبرد عنه ما يجده من الحرارة لما في الهواء من برودة الماء من حيث صورته وإن كانت له حركة خفية ولكن لا تكفي المحرور كما أنه إذا كثر بحيث أن يتأذى منه الإنسان طلب التستر عنه لأنه ليس في قوة الحيوان تقليله الهواء إلا إذا كان الإنسان هو الذي يثير حركة الهواء فإنه يقدر على تقليله بضعف حركة السبب الذي به أثاره وأما إذا كان السبب خارجا عن حكم الإنسان فإنه لا يقدر على تقليله والهواء هو الذي يسوق الأرواح إلى المشام من طيب وخبيث وفيه تظهر صور الحروف والكلمات فلو لا الهواء ما نطق ناطق ولا صوت مصوت ولما كان البارئ متكلما ووصف نفسه بالكلام وصف نفسه بأن له نفسا وإن كان ليس كمثله شئ ولكن نبه عباده العارفين أن علمه بالعالم علمه بنفسه ووصف نفسه سبحانه بأنه ينفخ الأرواح فيعطي الحياة في الصور المسواة فجاء بالنفخ الذي يدل على النفس فحياة العالم بالنفخ الإلهي من حيث إن له نفسا فلم يكن في صور العالم أحق بهذه الحياة من الهواء فهو الذي خرج على صورة النفس الرحماني الذي ينفس الله به عن عباده ما يجدونه من الكرب والغم الذي تعطيه الطبيعة وبعد أن عرفتك بمنزلة الهواء من العالم فلنذكر ما يحدث فيه فمما يحدث فيه صور الجنين في النكاح والثمر في اللقاح قال تعالى وأرسلنا الرياح لواقح وهذا معروف بالمشاهدة في تلقيح الثمار فالهواء ينكح بما يحمله من روائح الذكورية والعقيم منه ما عدا اللواقح واللواقح من الرياح ليست مخصوصة بالثمر وإنما هي كل ريح تعطي الصور والعقيم كل ريح تذهب بالصور فالهواء الذي يشعل النار من الرياح اللواقح والذي يطفئ السرج من الريح العقيم وإن كانت واحدة في العين فما هي واحدة عند من يرى تجديد العالم في كل نفس فإنهم في لبس من خلق جديد وأصل هذا في العلم الإلهي أن اللواقح ما تعطيه الربوبية من وجود أعيان المربوبين والعقيم سبحات الوجه المذهبة أعيان الكائنات من خلقه ومما وجد من العالم في الهواء البرد والثلج والجليد إذا غلب عليه برد الماء فتشكل البرد من استدارته وجليده من اليبوسة التي تعطيه برد التراب والثلج دون الجليد في
(٤٥١)