الواردات مع أنها ما ترد إلا على قلب مستعد لقبولها فإذا ورد الوارد على القلب فجأة من غير تصنع فيعطيه ذلك الوارد حسرة فوت الوقت فإنه منبه لمن غفل عن حكم وقته فيه فلم يتأدب مع وارد وقته أراد الحق أن ينبهه عناية منه به فبعث إليه هذا الوارد رسولا من الله يكشف له عن فوت وقته وإنه ممن أساء الأدب مع الله فيندمه على ما كان منه من فوت الوقت فيجبر له هذا الندم فضيلة ما فاته من وقته حتى يكون كأنه ما فاته شئ وهذا غلط عظيم فيتزين وقته بزينة ندمه كما كان يتزين بزينة أدبه معه لو حضر معه ولم يفته فهذه فائدة الهجوم يجبر الوقت الذي فإنه ولنا في ذلك بادر لجبر الذي قد فات من عمرك * ولتتخذ زادك الرحمن في سفرك وأما البوادة فهي أيضا فجأة إلهية تفجأ القلوب من حضرة الغيب بحكم الوقت ولا تأتي في اصطلاحهم هذه البوادة إلا أن تعطي فرحا في القلب أو حزنا فتضحك وتبكي وهو قول أبي يزيد ضحكت زمانا وبكيت زمانا يريد أنه كان في حكم البوادة ثم قال وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي يعرف بانتقاله من تأثر حال البوادة فيه إلى حال العظمة ولا تكون البوادة إلا فيمن يتصف ومن لا وصف له لا بديهة له غير أنه لما كانت البوادة من حضرة الهو لم يعرف متى تأتي فإذا وردت إنما ترد فجأة وبغتة فتعطي ما وردت به وتنصرف وأما البديهة التي تعرفها الناس فليست تتقيد بفرح ولا ترح فما هي التي اصطلح عليها القوم وهي عينها إلا أن القوم ما سموا بديهة إلا ما أوجب فرحا أو ترحا وأما إذا لم يوجب ذلك فأحوالهم فيها أحوال الناس غير أن أهل الطريق يعلمون أن البوادة إذا وردت لا يخطئ حكمها ألبتة ولها الإصابة في كل ما ترد به ولهذا إذا سأل الشيوخ تلاميذهم عن مسألة على تعليم الأخذ عن الله لا يتركونه يفكر في الجواب فيكون جوابهم نتيجة فكر وإنما يقولون لا تجب إلا بما يخطر لك فيما سألت عنه عند السؤال فتنظر إلى قلبك ما ألقى فيه عند ورود السؤال فاذكره ببادئ الرأي فإن لم يفعل فلا يقبل منه الجواب وإن أصاب عن فكر ونظر فإن الله لا يغفل في كل نفس عن قلب أحد من عباده بل هو الرقيب عليه فيهبه في كل نفس بحسب ما يريده سبحانه فأصحاب القلوب المراقبين قلوبهم من أجل آثار ربهم فيها يجيبون بورود الوارد في كل نفس فيعملون بمقتضاه إن وافق الميزان الشرعي الذي قد شرع لسعادتهم وإن لم يوافق طريق السعادة فإن لهم لهذا الوارد أخذا مخصوصا فيأخذونه تنبيها من الحق وتعريفا لا مؤثرا في ظاهرهم ولا باطنهم فهذا قد بينا معنى البوادة والهجوم عند القوم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (الباب الموفي ستين ومائتان في معرفة القرب) وهو القيام بالطاعات وقد يطلقونه ويريدون به قرب قاب قوسين وهما قوسا الدائرة إذا قطعت بخط أو أدنى إذا قطعت بخط أكرة فبدا * قوسان ذلك قرب الحق فاعتبروا إلى حقيقة أدنى منهما فإذا * ما خرته لاح ما يقضي به النظر إن المعارج للأرواح نسبتها * خلاف نسبة ما يسرى به البصر قال تعالى ونحن أقرب إليه من حبل الوريد فوصف نفسه بالقرب من عباده والمطلوب بالقرب إنما هو أن يكون صفة العبد فيتصف بالقرب من الحق اتصاف الحق بالقرب منه كما قال وهو معكم أينما كنتم والرجال يطلبون أن يكونوا مع الحق أبدا في أي صورة تجلى وهو لا يزال متجليا في صور عباده دائما فيكون العبد معه حيث تجلى دائما كما لا يخلو العبد عن أينية دائما والله معه أينما كان دائما فأينية الحق صورة ما يتجلى فيها فالعارفون لا يزالون في شهود القرب دائمين لأنهم لا يزالون في شهادة الصور في نفوسهم وفي غير نفوسهم وليس إلا تجلى الحق وأما القرب الذي هو القيام بالطاعات فذلك القرب من سعادة العبد بالفوز من شقاوته وسعادة العبد في نيل جميع أغراضه كلها ولا يكون له ذلك إلا في الجنة وأما في الدنيا فإنه لا بد من ترك بعض أغراضه القادحة في سعادته فقرب العامة والقرب العام إنما هو القرب من السعادة فيطيع ليسعد وقرب العارفين ما ذكرناه فهو يتضمن السعادة وزيادة ولولا الأسماء الإلهية وحكمها في الأكوان ما ظهر حكم القرب والبعد في العالم فإن كل عبد في كل وقت لا بد أن يكون صاحب
(٥٥٨)