ولما أسلم صاحب النظر وآمن ورأى من مقامه جميع ما رآه التابع في معراجه مشاهدة عين سأل أن يرى مقام المجرمين وهم المستحقون تلك الدار التي دخلوها بحكم الاستحقاق وعلموا إن العلم أشرف حلة وأن الجهل أقبح حلية وأن جهنم ليست بدار لشئ من الخير كما إن الجنة ليست بدار لشئ من الشر ورأى الايمان قد قام بقلب من لا علم له بما ينبغي لجلال الله ورأى العلم بجلال الله وما ينبغي له قد قام بمن ليس عنده شئ من الايمان وهذا العالم بعدم الايمان قد استحق دار الشقاء (وإن الجاهل) المؤمن قد استحق بالإيمان دار السعادة والدرجات في مقابلة الدركات فسلب هذا العالم المستحق دار الشقاء علمه حتى كأنه ما علمه أو لم يعلم شيئا فيتعذب بجهله أشد منه من عذابه بحسه وهو أشده عليه فخلع علمه على هذا الجاهل المؤمن الذي دخل الجنة بإيمانه فنال المؤمن بذلك العلم الذي خلع عن هذا الذي استحق الإقامة بدار الشقاء درجة ما يطلبه ذلك العلم فيتنعم به نفسا وجسما وفي الكثيب عند الرؤية ويعطي ذلك الكافر جهل هذا المؤمن الجاهل فينال بذلك الجهل درك ذلك من النار وتلك أشد حسرة تمر عليه فإنه يتذكر ما كان عليه من العلم ولا يعلم ذلك الآن ويعلم أنه سلبه ويكشف الله عن بصره حتى يرى مرتبة العلم الذي كان عليه في الجنان ويرى حلة علمه على غيره ممن لم يتعب في تحصيله ويطلب شيئا منه في نفسه فلا يقدر عليه وينظر هذا المؤمن ويطلع على سواء الجحيم فيرى شر جهله على ذلك العالم الذي ليس بمؤمن فيزيد نعيما وفرحا فما أعظمها من حسرة واتفق لي في هذه المسألة عجبا وذلك أن بعض علماء الفلاسفة سمع مني هذه المقالة فربما أحالها في نفسه أو استخف عقلي في ذلك فأطلعه الله بكشف لم يشك فيه في نفسه بحيث أن تحقق الأمر على ما قلناه فدخل علي باكيا على نفسه وتفريطه وكانت لي معه صحبة فذكر لي الأمر وأناب واستدرك الفائت وآمن وقال لي ما رأيت أشد منها حسرة وتحقق قوله تعالى إني أعظك أن تكون من الجاهلين وقوله فلا تكونن من الجاهلين فهذا قد جمع بين خطاب لطف ولين وعنف وشدة لأن الواحد شيخ فخاطبه باللطف والآخر شاب فخاطبه بالشدة نفعنا الله بالعلم وجعلنا من أهله ولا يجعلنا ممن يسعى بخيره في حق غيره ويشقى آمين بعزته انتهى الجزء الثامن ومائة (بسم الله الرحمن الرحيم) (الباب الثامن والستون ومائة في معرفة مقام الأدب وأسراره) إن الأديب هو الحكيم لأنه * مجموع خير والمساب مجمع فإذا رأيت نعوته في خلقه * كنها ففيك لكل نعت موضع لا ترعوي عنها فأنت من أهلها * والحق يعطي ما يشاء ويمنع أدباء أهل الله خير كلهم * فلذاك تبصرها تضر وتنفع مثل الإساءة يرى العليل صنيعهم * حسنا وتكره نفسه ما يصنع اعلم أيدك الله أن الله يقول وهو معكم أينما كنتم فالأديب إمعة لما عنده من السعة فهو مع كل مقام بحسب ذلك المقام ومع كل حال بحسب ذلك الحال ومع كل خلق ومع كل غرض فالأديب هو الجامع لمكارم الأخلاق والعليم بسفسافها لا يتصف بها بل هو جامع لمراتب العلوم محمودها ومذمومها لأنه ما من شئ إلا والعلم به أولى من الجهل به عند كل عاقل فالأدب جماع الخير وهو ينقسم إلى أربعة أقسام في اصطلاح أهل الله (القسم الأول) أدب الشريعة وهو الأدب الإلهي الذي يتولى الله تعليمه بالوحي والإلهام به أدب نبيه ص وبه أدبنا نبيه ص فهم المؤدبون المؤدبون قال رسول الله ص إن الله أدبني فأحسن أدبي (والقسم الثاني) أدب الخدمة وهو ما اصطلحت عليه الملوك في خدمة خدمها وملك أهل الله هو الله فقد شرع لنا كيفية الأدب في خدمته وهو معاملتنا إياه فيما يختص به دون معاملة خلقه فهو خصوص في أدب الشريعة لأن حكم الشريعة يتعلق بما هو حق لله وبما هو حق للخلق (والقسم الثالث) أدب الحق وهو الأدب مع الحق في اتباعه عند من يظهر عنده ويحكم به
(٢٨٤)