متعلقها الحق فنعني بالحق هنا ما يظهر للخلق في الأعمال المشروعة فيرغب السر في هذا الحق لما يندرج في ذلك أو يظهر به من المعارف الإلهية التي تتضمنها الأحكام المشروعة ولا تكشف إلا بالعمل بها فإن الظاهر أقوى من الباطن حكما أي هو أعم لأن الظاهر له مقام الخلق والحق والباطن له مقام الحق بلا خلق إذ الحق لا يبطن عن نفسه وهو ظاهر لنفسه فمن علم ذلك رغب سره في الحق فإن الله ربط العالم به وأخبر عن نفسه أن له نسبتين نسبة إلى العالم بالأسماء الإلهية المثبتة أعيان العالم ونسبة غناه عنه فمن نسبة غناه عنه يعلم نفسه ولا نعلمه فلم يبطن عن نفسه ومن نسبة ارتباط العالم به للدلالة عليه علم أيضا نفسه وعلمناه فعم الظاهر النسبتين فكان أقوى في الحكم من الباطن فرغب السر في الحق لعلمه بأن مدرك نسبة الغني لا يدركها إلا هو فقطع يأسه وأراح نفسه وطلب ما ينبغي له أن يطلب فنفخ في ضرم ولم يكن لحما علي وضم جعلنا الله ممن رأى الحق حقا فاتبعه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (الباب الرابع والثلاثون ومائتان في الرهبة) الرهبة الخوف من سبق وتقليب * ومن وعيد لصدق المخبر الصادق دل الدليل عليه من مضائفة * فالراهب الخائف المسارع السابق يسير في ظلمة عمياء غاسقة * سير المريب وسير الواله العاشق يسرى بهمته خوفا فتبصره * يخاف في سيره من فجأة الطارق الرهبة عند القوم تقال بإزاء ثلاثة أوجه رهبة من تحقيق الوعيد ورهبة من تقليب العلم ورهبة من تحقيق أمر السبق فالأول إذا جاء الوعيد بطريق الخبر والخبر لا يدخله النسخ فهو ثابت والثاني تقليب العلم فيمحو الله ما يشاء ويثبت والثالث ما يبدل القول لدي وأما الرهبة المطلقة من غير تقييد بأمر ما معين فهي كل خوف يكون بالعبد حذرا أن لا يقوم بحدود ما شرع له سواء كان حكما مشروعا إلهيا أو حكما حكميا كما قال تعالى ورهبانية ابتدعوها أي هم شرعوها لأنفسهم ما أوجبناها عليهم ابتداء فاعتبرها الحق وآخذهم بعدم مراعاتها فما كتبها الله عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فأثنى على المراعين لها ليحسن القصد والنية في ذلك وفي الكلام تقديم وتأخير كأنه يقول فما رعوها حق رعايتها إلا ابتغاء رضوان الله يعني المراعين لها وفي شرعنا من هذه الرهبانية من سن سنة حسنة وهذا هو عين الابتداع ولما جمع عمر بن الخطاب الناس على أبي في قيام رمضان قال نعمت البدعة هذه فسماها بدعة ومشت السنة على ذلك إلى يومنا هذا فلما اقترن بالأعمال المشروعة وجوب القيام بحقها كالنذر خاف المكلف فقامت الرهبة به فأدته إلى مراعاة الحدود فسمي راهبا وسميت الشريعة رهبانية ومدح الله الرهبان في كتابه فمن الناس من علق رهبته بالوعيد فخاف من نفوذه كالمعتزلي القائل بإنفاذ الوعيد فيمن مات عن غير توبة فاعلم إن هنا نكتة أنبهك عليها وذلك أنه من المحال أن يأتي مؤمن بمعصية توعد الله عليها فيفزع منها إلا ويجد في نفسه الندم على ما وقع منه وقد قال صلى الله عليه وسلم الندم توبة وقد قام به الندم فهو تائب فسقط حكم الوعيد لحصول الندم فإنه لا بد للمؤمن أن يكره المخالفة ولا يرضى بها وهو في حال عمله إياها فهو من كونه كارها لها مؤمن بأنها معصية ذو عمل صالح وهو من كونه فاعلا لها ذو عمل سيئ فغايته إن يكون من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فقال تعالى عقيب هذا القول عسى الله أن يتوب عليهم وعسى من الله واجبة ورجوعه عليهم إنما هو بالمغفرة ويرزقهم الندم عليها والندم توبة فإذا ندموا حصلت توبة الله عليه فهو ذو عمل صالح من ثلاثة أوجه الايمان بكونها معصية وكراهته لوقوعها منه والندم عليها وهو ذو عمل سيئ من وجه واحد وهو ارتكابه إياها ومع هذا الندم فإن الرهبة تحكم عليه سواء كان عالما بما قلناه أو غير عالم فإنه يخاف وقوع مكروه آخر منه ولو مات على تلك التوبة فإن الرهبة لا تفارقه وينتقل تعلقها من نفوذ الوعيد إلى العتاب الإلهي والتقرير عند السؤال على ما وقع منه فلا يزال مستشعرا وهو نوع من أنواع الوعيد فإن الله يقول فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فلا بد أن يوقف عليه فهو يرهب من هذا التوبيخ برؤية ذلك العمل القبيح الذي لا بد له من رؤيته ولم يتعرض الحق في هذه الآية للمؤاخذة به فالرؤية لا بد منها فإن كان ممن غفر له يرى عظيم ما جنى وعظيم نعمة الله
(٥٣٣)