الفقر مع وجود اسم الغني المقيد له والظاهر فيه إذا تسمى بالغنى يصح له لأنه يعطي جودا ومنة وهو الوهاب الذي يعطي لينعم وقد يعطي ليعبد فلا يكون هذا عطاء تنزيه بل هو عطاء عوض ففيه طلب قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فإعطاء هذا الخلق إعطاء طلب لا إعطاء هبة ومنة وإعطاء الوهب إعطاء إنعام لا لطلب شكر ولا عوض يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا وهو الخنثى ثم وصف نفسه في ذلك بأنه عليم قدير وهو وصف يرجع إليه ما طلب منهم في ذلك عوضا كما طلب في قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فمنزلة خلقهم له ما هو منزلة خلقهم لهم فخلقهم لهم من أسماء التنزيه وخلقهم له من أسماء التشبيه وهذا القدر كاف في الغرض (السؤال الخامس والعشرون) ما بدء الوحي الجواب إنزال المعاني المجردة العقلية في القوالب الحسية المقيدة في حضرة الخيال في نوم كان أو يقظة وهو من مدركات الحس في حضرة المحسوس مثل قوله فتمثل لها بشرا سويا وفي حضرة الخيال كما أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم في صورة اللبن وكذا أول رؤياه قالت عائشة أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا خرجت مثل فلق الصبح وهي التي أبقى الله على المسلمين وهي من أجزاء النبوة فما ارتفعت النبوة بالكلية ولهذا قلنا إنما ارتفعت نبوة التشريع فهذا معنى لا نبي بعده وكذلك من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه فقد قامت به النبوة بلا شك فعلمنا إن قوله لا نبي بعده أي لا مشرع خاصة لا أنه لا يكون بعده نبي فهذا مثل قوله إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ولم يكن كسرى وقيصر إلا ملك الروم والفرس وما زال الملك من الروم ولكن ارتفع هذا الاسم مع وجود الملك فيهم وتسمى ملكهم باسم آخر بعد هلاك قيصر وكسرى كذلك اسم النبي زال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه زال التشريع المنزل من عند الله بالوحي بعده صلى الله عليه وسلم فلا يشرع أحد بعده شرعا إلا ما اقتضاه نظر المجتهدين من العلماء في الأحكام فإنه بتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم صح فحكم المجتهد من شرعه الذي شرعه صلى الله عليه وسلم الذي يعطي المجتهد دليله وهو الذي أذن الله به فما هو من الشرع الذي لم يأذن به الله فإن ذلك كفر وافتراء على الله فإن قلت هذا الذي بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين نقول إنه بدء الوحي قلنا لا شك ولا خفاء عند المؤمنين والأولياء أن محمدا صلى الله عليه وسلم خصه الله بالكمال في كل فضيلة فمن ذلك أن خصه بكمال الوحي وهو استيفاء أنواعه وضروبه وهو قوله عليه السلام أوتيت جوامع الكلم وبعث عامة فما بقي ضرب من الوحي إلا وقد نزل عليه به فلما كان بهذه المثابة وبدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا في وحيه ستة أشهر علمنا إن بدء الوحي الرؤيا وإنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة لكونها ستة أشهر وكانت نبوته ثلاثا وعشرين سنة فستة أشهر جزء من ستة وأربعين ولا يلزم أن يكون لكل نبي فقد يوحى لنبي لا من بدء الوحي الذي هو الرؤيا بل بضرب آخر من الوحي فلما بدئ بالرؤيا صلى الله عليه وسلم قلنا الرؤيا بدء الوحي بلا شك لأن الكمال الذي وصف به نفسه صلى الله عليه وسلم في المقام أعطى أن يكون بدء الوحي ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا ينبغي أن يكون فإن البدء عندنا هو ما يناسب الحس أولا ثم يرتقي إلى الأمور المجردة الخارجة عن الحس فلم تكن إلا الرؤيا نوما كان أو يقظة والوحي هنا تشريع الشرائع من كونه نبيا أو رسولا كيف ما كان وهذا كله إذا كان سؤاله عن الوحي المنزل على البشر فإن كان سؤاله عن بدء الوحي من حيث الوحي أو عن بدء الوحي في حق كل صنف ممن يوحى إليه كالملائكة وغير البشر من الجنس الحيواني مثل قوله وأوحى ربك إلى النحل وغير الجنس الحيواني مثل عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فإنه كان بوحي ومثل قوله وأوحى في كل سماء أمرها ومثل قوله ونفس وما سواها وهي نفس كل مكلف وما ثم إلا مكلف لقوله فألهمها فجورها وتقواها فدخل الملك بالتقوى في هذه الآية إذ لا نصيب له في الفجور وكذلك سائر نفوس ما عدا الإنس والجان فالإنس والجن ألهموا الفجور والتقوى كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا فإن أراد بدء الوحي في كل صنف صنف وشخص شخص فهو الإلهام فإنه لا يخلو عنه موجود وهو الوحي وهذا جواب عن بدء الوحي من حيث الوحي ومن حيث شخص شخص
(٥٨)