وإما أن تكون لنا حقا ونعت نفسه بها توصلا لنا وخبره بها صدق لا كذب وإن كنا نحن فيها الأصل فهو مكتسب وإن كان هو الأصل فقد كسبنا إياها وهذه من أغمض نتائج العلم بالله فإنه أضاف إليه نعوت المحدثات كلها بأخبار قديم أزلي فمنها ما أشار به في أخباره بأنه مكتسب لبعضها مثل قوله ولنبلونكم حتى نعلم ومنها ما ذكره ولم يقيد باكتساب ولا غيره ومن هذا الباب أجيب دعوة الداع وادعوني أستجب لكم واسئلوني أعطكم واستغفروني أغفر لكم واذكروني أذكركم وأما قولهم الفناء عن الفناء فما هو نوع ثامن وإنما هو الفاني إذا لم يعلم في فنائه إنه فإن فذلك الفناء عن الفناء كصاحب الرؤيا الذي لا يعلم أنه في رؤيا فهو حال تابع في كل نوع يقوم من أنواع الفناء وحال الفناء لا ينال بتعمل أي لا يقصد وأدناه درجة حكمه في المتفكر فإذا استغرق الإنسان الفكر في أمر ما من أمور الدنيا أو في مسألة من العلم فتحدثه ولا يسمعك وتكون بين يديه ولا يراك وترى في عينه جمودا في تلك الحالة فإذا عثر على مطلوبه أو طرأ أمر يرده إلى إحساسه حينئذ يراك ويسمعك فهذه أدنى درجاته في العالم وسبب ذلك ضيق المحدث فإنه لا شئ أوسع من حقيقة الإنسان ولا شئ أضيق منها فأما اتساع القلب فإنه لا يضيق عن شئ ولكن عن شئ واحد وأما ضيقه فإنه لا يسع خاطرين معا فإنه أحدي الذات فلا يقبل الكثرة فهو من حيث هذه الحقيقة في الحكم الإلهي في معنى قوله والله غني عن العالمين وفي الرتبة الأخرى في قوله فأحببت إن أعرف وهذا القدر كاف في معرفة هذا الباب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (الباب الأحد والعشرون ومائتان في معرفة البقاء وأسراره) إذا رأيت قيام الله جل على * كل النفوس بما فيها من الأثر ذاك البقاء الذي قال الرجال به * وأنت باق به إن كنت ذا نظر فكن به لا تكن بالفكر متصفا * فإنما الغير مشتق من الغير وأين غير وما في الكون أجمعه * سوى الوجود الذي تدعوه بالبشر فإنه اسم يعم الكون أجمعه * عينا وعلما فلا تخرج عن الصور اعلم أن البقاء عند بعض الطائفة بقاء الطاعات كما كان الفناء فناء المعاصي عند صاحب هذا القول وعند بعضهم البقاء بقاء رؤية العبد قيام الله على كل شئ وهذا قول من قال في الفناء إنه فناء رؤية العبد فعله بقيام الله تعالى على ذلك وعند بعضهم البقاء بقاء بالحق وهو قول من قال في الفناء إنه فناء عن الخلق اعلم أن نسبة البقاء عندنا أشرف في هذا الطريق من نسبة الفناء لأن الفناء عن الأدنى في المنزلة أبدا عند الفاني والبقاء بالأعلى في المنزلة أبدا عند الباقي فإن الفناء هو الذي أفناك عن كذا فله القوة والسلطان فيك والبقاء نسبتك إلى الحق وإضافتك إليه أعني البقاء في هذا الطريق عند أهل الله فيما اصطلحوا والفناء نسبتك إلى الكون فإنك تقول فنيت عن كذا ونسبتك إلى الحق أعلى فالبقاء في النسبة أولى لأنهما حالان مرتبطان فلا يبقى في هذا الطريق إلا فإن ولا يفنى إلا باق والموصوف بالفناء لا يكون إلا في حال البقاء والموصوف بالبقاء لا يكون إلا في حال الفناء ففي نسبة البقاء شهود حق وفي نسبة الفناء شهود خلق لأنك لا تقول فنيت عن كذا إلا مع تعقلك من فنيت عنه ونفس تعقلك إياه هو نفس شهودك إياه إذ لا بد من إحضاره في نفسك لتعقل حكم الفناء عنه وكذلك البقاء لا بد من شهود من أنت باق به ولا يكون البقاء في هذا الطريق إلا بالحق فلا بد من شهود الحق فإنه لا بد من إحضارك إياه في قلبك وتعقلك إياه فحينئذ تقول بقيت بالحق وهذه النسبة أشرف وأعلى لعلو المنسوب إليه فحال البقاء أعلى من حال الفناء وإن تلازما وكانا للشخص في زمان واحد فلا خفاء عند ذي نظر سليم في الفرق بين النسبتين في الشرف والمنزلة (شرح هذا المقام يتضمنه شرح باب الفناء) وذلك أن ننظر في كل نوع من أنواع الفناء إلى السبب الذي أفناك عن كذا فهو الذي أنت باق معه هذا جماع هذا الباب إلا أن هنا تحقيقا لا يكون إلا في الفناء وذلك أن البقاء نسبة لا تزول ولا تحول حكمه ثابت حقا وخلقا وهو نعت إلهي والفناء نسبة تزول وهو نعت كياني لا مدخل له في حضرة الحق وكل نعت ينسب إلى الجانبين فهو أتم وأعلى من النعت المخصوص بالجانب الكوني إلا العبودة فإن نسبتها إلى الكون أتم وأعلى من
(٥١٥)