فإن ارتقى عن درجة البشرية كلمه الله من حيث ما كلم الأرواح إذ كانت الأرواح أقوى في التشبه لكونها لا تقبل التحيز والانقسام وتتجلى في الصور من غير أن يكون لها باطن وظاهر فما لها سوى نسبة واحدة من ذاتها وهي عين ذاتها والبشر من نشأته ليس كذلك فإنه على صورة العالم كله ففيه ما يقتضي المباشرة والتحيز والانقسام وهو مسمى البشر وفيه ما لا يطلب ذلك وهو روحه المنفوخ فيه وعلى بشريته توجهت اليدان فظهرت الشفعية في اليدين في نشأته فلا يسمع كلام الحق من كونه بشرا إلا بهذه الضروب التي ذكرها أو بأحدها فإذا زال في نظره عن بشريته وتحقق بمشاهدة روحه كلمه الله بما يكلم به الأرواح المجردة عن المواد مثل قوله تعالى في حق محمد صلى الله عليه وسلم وفي حق الأعرابي فأجره حتى يسمع كلام الله وما تلاه عليه غير لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأقام محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الصورة مقام الروح الأمين الذي نزل بكلام الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وهو قوله أو يرسل رسولا يعني لذلك البشر فيوحي إليه بإذنه ما يشاء الله تعالى مما أمره أن يوحى به إليه فقوله إلا وحيا يريد هنا إلها ما بعلامة يعلم بها أن ربه كلمه حتى لا يلتبس عليه الأمر أو من وراء حجاب يريد إسماعه إياه لحجاب الحروف المقطعة والأصوات كما سمع الأعرابي القرآن المتلو الذي هو كلام الله أو حجاب الآذان أيضا من السامع أو حجاب بشريته مطلقا فيكلمه في الأشياء كما كلم موسى من جانب الطور الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله فوقع الحد بالجهة وتعين البقعة لشغله بطلب النار الذي تقتضيه بشريته فنودي في حاجته لافتقاره إليها والله قد أخبر أن الناس فقراء إلى الله فتسمى الله في هذه الآية باسم كل ما يفتقر إليه غيرة إلهية أن يفتقر إلى غير الله فتجلى الله له في عين صورة حاجته فلما جاء إليها ناداه منها فكان في الحقيقة فقره إلى الله والحجاب وقع بالصورة التي وقع فيها التجلي فلو لا ما ناداه ما عرفه وفي مثل هذا يقع التجلي الإلهي في الآخرة الذي يقع فيه الإنكار وقوله إنه على أي عليم بما تقتضيه المراتب التي ذكرها وأنزلها منزلتها وقوله حكيم يريد بإنزال ما علمه منزلته ولو بدل الأمر لما عجز عن ذلك ولكن كونه عليا حكيما يقضي بأن لا يكون الأمر إلا كما وقع ولما أخبر نبيه بهذه المراتب كلها التي تطلبها البشرية قال له وكذلك أي ومثل ذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا يعني الروح الأمين الذي نزل به على قلبك الذي هو روح القدس أي الطاهر عن تقييد البشر فقد علمت معنى البشر الذي أردنا أن نبينه لك بما تقتضيه هذه اللفظة باللسان العربي (السؤال الخامس والأربعون) بأي شئ نال التقدمة على الملائكة الجواب إن الله قد بين ذلك بقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها يعني الأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاد حقائق الأكوان ومن جملتها الأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاد الملائكة والملائكة لا تعرفها ثم أقام المسمين بهذه الأسماء وهي التجليات الإلهية التي هي للأسماء كالمواد الصورية للأرواح فقال للملائكة أنبئوني بأسماء هؤلاء يعني الصور التي تجلى فيها الحق إن كنتم صادقين في قولكم نسبح بحمدك وهل سبحتموني بهذه الأسماء التي تقتضيها هذه التجليات التي أتجلاها لعبادي وإن كنتم صادقين في قولكم ونقدس لك ذواتنا عن الجهل بك فهل قدستم ذواتكم لنا من جهلكم بهذه التجليات وما لها من الأسماء التي ينبغي أن تسبحوني بها فقالت الملائكة لا علم لنا إلا ما علمتنا فمن علمهم بالله أنهم ما أضافوا التعليم إلا إليه تعالى إنك أنت العليم بما لا يعلم الحكيم بترتيب الأشياء مراتبها فأعطيت هذا الخليفة ما لم تعطنا مما غاب عنا فلو لا أن رتبة نشأته تعطي ذلك ما أعطت الحكمة أن يكون له هذا العلم الذي خصصته به دوننا وهو بشر فقال لآدم أنبئهم بأسماء هؤلاء الذين عرضناهم عليهم فأنبأ آدم الملائكة بأسماء تلك التجليات وكانت على عدد ما في نشأة آدم من الحقائق الإلهية التي تقتضيها اليدان الإلهية مما ليس من ذلك في غيره من الملائكة شئ فكان هؤلائك المسمون المعروضة على الملائكة تجليات إلهية في صورة ما في آدم من الحقائق فأولئك هم عالم آدم كلهم فلما علمهم آدم عليه السلام قال لهم الله ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات وهو ما علا من علم الغيوب والأرض وهو ما في الطبيعة من الأسرار وأعلم ما تبدون أي ما هو من الأمور ظاهر وما تكتمون أي ما تخفونه على أنه باطن مستور فأعلمتكم أنه أمر نسبي بل هو ظاهر لمن يعلمه ثم قال لهم بعد التعليم اسجدوا لآدم سجود المتعلمين للمعلم من أجل ما علمهم فلآدم هنا لام العلة والسبب
(٧١)