هنا سر خفي في قوله عناني فأفرد وما أعطى لهؤلاء المحبوبين من نفسه أعنة مختلفة فدل أن هذا المحب وإن كان مركبا فما أحب إلا معنى واحدا قام له في هؤلاء الثلاثة أي ذلك المعنى موجود في عين كل واحدة منهن والدليل على ذلك قوله في تمام البيت وحللن من قلبي بكل مكان فلو أحب من كل واحدة معنى لم يكن في الأخرى لكان العنان الذي يعطي لواحدة غير العنان الذي يعطي الأخرى ولكان المكان الذي تحله الواحدة غير المكان الذي تحله الأخرى فهذا واحد أحب واحدا وذلك الواحد المحبوب موجود في كثيرين فأحب الكثير لأجل ذلك وهذا كحبنا الله تعالى له ومنا من يحبه لنفسه ومنا من يحبه للمجموع وهو أتم في المحبة لأنه أتم في المعرفة بالله والشهود لأن منا من عرفه في الشهود فأحبه للمجموع ومنا من عرفه لا في الشهود ولكن في الخبر فأحبه له ومنا من عرفه في النعم فأحبه لنفسه ومنا من أحبه للمجموع وذلك أن الشهود لا يكون إلا في صورة والصورة مركبة والمحب ذو صورة مركبة فيسمع من وجه فيحبه للخبر مثل قوله على لسان نبيه هل واليت لي وليا أو عاديت في عدوا فإذا أحببت الأشياء من أجله وعاديت الأشياء من أجله فهذا معنى حبنا له ليس غير ذلك فقمنا بجميع ما يحبه منا أن نقوم به عن طيب نفس ويكون من لا يشاهده من صورتي في حكم التبع كما هي الجوارح منا وحيوانيتنا بحكم النفس الناطقة لا تقدر على مخالفتها لأنها كالآلات لها تصرفها كيف تريد في مرضاة الله وفي غير مرضاته وكل جزء من جوارح الإنسان إذا ترك بالنظر إلى نفسه لا يتمكن له أن يتصرف إلا فيما يرضى الله فإنه له وجميع ما في الوجود بهذه المثابة إلا الثقلان وهو قوله وإن من شئ إلا يسبح بحمده يريد بذلك التسبيح الثناء على الله لا للجزاء لأنه في عبادة ذاتية لا يتصور معها طلب مجازاة فهذا من حبه له سبحانه إلا بعض النفوس الناطقة لما جعل لها في معرفة الله القوة المفكرة لم تفطر على العلم بالله ولهذا قبض عليها في قبض الذرية من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم شهادة قهر فسجدت لله كرها لا طوعا من أجل القبض عليها ثم أرسلها مسرحة من تلك القبضة الخاصة وهي مقبوض عليها من حيث لا تشعر فتخيلت أنها مسرحة فلما وجدت مدبرة لهذا الهيكل المظلم جرت في الأمور بحسب ما يعطيها غرضها لا تحب من الأمور إلا ما يلائم طبعها وغفلت عن مشهد الإقرار بالربوبية عليها لموجدها فبينا هي كذلك إذ قالت لها القوة المفكرة جميع القوي قد استعملتها وغفلت عني وتركتني وأنا من بعض آلاتك وما لك بي عناية فاستعمليني فقالت لها نعم لا تؤاخذيني فإني جهلت رتبتك وقد أذنت لك في التصرف فيما تعطيه حقيقتك حتى أتحقق بما أنت عليه فأصرفك فيه وأستعملك فقالت سمعا ثم ردت وجهها القوة الفكرية إليها كالمعلمة وقالت لها لقد غفلت عن ذاتك وعن وجودك أنت لم تزالي هكذا موجودة لذاتك أو لم تكوني ثم كنت قالت النفس لم أكن ثم كنت قال الفكر فهذا الذي كونك عينك أو غيرك فكري وحققي واستعمليني فلهذا العمل أنا ففكرت النفس فعلمت بما أعطاها الدليل أنها لم توجد عينها وأنها موجودة لغيرها فالفقر للموجد لها ذاتي بما تجده في نفسها مما يقوم بها من الآلام الطبيعية فتفتقر إلى الأسباب المعتادة لإزالة تلك الآلام فبذلك الافتقار علمت أنها فقيرة في وجود عينها للسبب الموجد لها فلما ثبت لها حدوثها وثبت أن لها سببا أوجدها ثم فكرت فعلمت إن ذلك السبب لا ينبغي أن يشبهها فيكون فقيرا مثلها وإنه لا يناسب هذه الأسباب المزيلة لآلامها لمشاهدتها حدوث هذه الأسباب بعد أن لم تكن وقبولها للاستحالات والفساد فثبت عندها أن لها موجدا أوجدها وأوجد كل من يشبهها من الحوادث والأسباب المزيلة لآلامها فتنبهت أن ثم أمرا ما لولاه لبقيت ذات مرض وعلة فمن رحمته بها أوجد لها هذه الأسباب المزيلة آلامها وقد كانت تحب هذه الأسباب وتجري إليها بالطبع فانتقل تعلق ذلك الحب في السبب الموجد تلك الأسباب وقالت هو أولى بي إن أحبه ولكن لا أعلم ما يرضيه حتى أعامله به فحصل عندها حبه فأحبته لما أنعم عليها من وجودها ووجود ما يلائمها وهنا وقفت وهي في ذلك كله غافلة ناسية إقرارها بربوبية موجدها في قبضة الذر فبينا هي كذلك إذ جاءها داع من خارج من جنسها ادعى أنه رسول من عند هذا الذي أوجدها فقالت له أنت مثلي وأخاف أن لا تكون صادقا فهل عندك من يصدقك فإن لي قوة مفكرة بها توصلت إلى معرفة موجدي فقام لها بدليل يصدقه
(٣٣٠)