إن قلت هم فهم أو قلت لا فهم * لكونهم بين آلام ولذات لأنه ليس تفنيهم مظاهره * وهي المعبر عنها بالستارات اعلم وفقك الله أن شيخنا أبا العباس العريبي كان ممن تحقق بهذا المنزل وفاوضناه فيه مرارا فكانت قدمه فيه راسخة رحمه الله واعلم أن هذا المنزل قد جمع بين المشقة الشديدة والأمور التي لا تنال إلا بالقهر الشديد والآفات المانعة عن إدراك المطلوب وبين الرفق وارتفاع الآفات والوصول إلى المطلوب بالراحة المستلذة المعشوقة للنفوس وما بين هاتين الصفتين شدائد عظام فأول علم يتضمن هذا المنزل علم الخروج عن الطبع فاعلم إن الحركات منها طبيعية ومنها قسرية فلا تتخيل أن الحركة الطبيعية تعطي لذة والحركة القسرية تعطي ألما لخروجك عن الطبع قد يكون الأمر كذلك وقد يكون على النقيض فلو وقع الإنسان من علو عظيم لكان نزوله إلى الأرض عن حركة طبيعية ولكن إذا وصل إلى الأرض ربما تكسرت أعضاؤه وتضاعفت آلامه وسببه الاضطراب الذاتي وعدم موافقة الاختيار الذي تطلبه ربانيته المودعة فيه التي قيل له اخرج عنها فما فعل والحركة القسرية هي أن يعرج به فيرى من الآيات والفرح والانفساحات والتنزه على قدر ما علت به تلك الحركة القسرية التي أخرجته عن طبعه واضطراره ووافقته في اختياره فلا تفرح بكل ما يقتضيه الطبع فإنه أيضا ما قبل الحركة القسرية إلا بطبعه فالطبع لا يفارقه حكمه في الحركتين واعلم أن الصفات التي جبل عليها الإنسان لا تتبدل فإنها ذاتية له في هذه النشأة الدنيا والمزاج الخاص من الجبن والشح والحسد والحرص والنميمة والتكبر والغلظة وطلب القهر وأمثال هذا ولما لم يتجه تبدلها بين الله لها مصارف صرفها إليها حكما مشروعا فإن صرفت إليها أحكام هذه الصفات سعدت ونالت الدرجات فجبنت عن إتيان المحارم لما تتوقعه من المضرة وشحت بدينها وحسدت منفق المال وطالب العلم وحرصت على الخير وسعت بين الناس بإيصال الخير فنمت به كما تنم الروضة بما فيها من الأزهار الطيبة الريح وتكبرت بالله على من تكبر على أمر الله وأغلظت القول والفعل في المواطن التي تعلم أن ذلك في مرضاة الله وطلبت القهر على من ناوى الحق وقاواه فلم تزل هذه النفس عن صفاتها وصرفتها في المصارف التي يحمدها عليها ربها وملائكته ورسله فالشرع ما جاء إلا بما يساعده الطبع فلا أدري من أين ينال الإنسان المشقة وما حجر عليه ما يقتضيه طبعه من هذه الصفات بتبيين المصارف فما هلك الناس إلا بسلطان الأغراض فإنه الذي أدخل الألم عليهم والمكروه فلو أن الإنسان يصرف غرضه إلى ما أراده له خالقه لاستراح قيل لأبي يزيد ما تريد قال أريد أن لا أريد أي اجعلني مريد الكل ما تريد حتى لا يكون إلا ما يريد الحق سبحانه فما يريد بعباده إلا اليسر ولا يريد بهم العسر ويريد لهم الخير وليس إليه الشر كما ورد في الخبر الصحيح والخير كله في يديك والشر ليس إليك وإن كان الكل من عند الله بحكم الأصل ولما كان خروج الإنسان عن إن يكون مريدا محالا وإنه أول ما كان يقدح ذلك في الطاعات فيفعلها من غير نية مشروعة فلا تكون طاعة وإنما طلب أبو يزيد الخروج عن الأغراض النفسية التي لا توافق مرضاة الحق عز وجل واعلم أن المشي في الظلمة بغير سراج وضوء في طريق كثيرة المهالك والحفر والأوحال والمهاوي والحشرات المؤذية التي لا يتقى شئ من هذا كله إلا أن يكون الماشي فيها بضوء يرى به حيث يجعل قدمه ويجتنب به ما ينبغي أن يجتنب مما يضره من مهواة يهوى فيها أو مهلك يحصل فيه أو حية تلدغه وليس له ضوء سوى نور الشرع الذي قال فيه تعالى نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وقال ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور وقال نور على نور فإذا اجتمع نور الشرع مع نور بصر التوفيق والهداية بان الطريق بالنورين فلو كان نور واحد لما ظهر له ضوء ولا شك أن نور الشرع قد ظهر كظهور نور الشمس ولكن الأعمى لا يبصره كذلك من أعمى الله بصيرته لم يدركه فلم يؤمن به ولو كان نور عين البصيرة موجودا ولم يظهر للشرع نور بحيث أن يجتمع النوران فيحدث الضوء في الطريق لما رأى صاحب نور البصيرة كيف يسلك لأنه في طريق مجهولة لا يعرف ما فيها ولا أين تنتهي به من غير دليل وموقف فهذا الشخص الماشي في هذه الطريق إن لم يحفظ سراجه من الأهواء إن تطفئه بهبوبها وإلا هبت عليه رياح زعازع فأطفأت سراجه وذهب نوره وهو كل ريح يؤثر في نور توحيده وإيمانه فإن هبت ريح لينة تميل لسان سراجه وتحيره حتى
(٦٨٧)