لعظم الأمر وشق وفيما يقع فيه التذكر كفاية وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين الله في موطن التكليف إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم الله فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من الله حيث يشهده ويراه والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ألا تراهم في الأمور المدبرة بالعقل الجارية على السداد العقلي إذا أراد الله إمضاء قضائه وقدره في أمر ما أخفى في ذلك الأمر حكمته وعلمه الذي أجراه له مما لا يقتضيه نظر العقل فإذا أمضاه رد عليهم عقولهم ليعلموا أن الله قد رحمهم بزوال العقل في ذلك الحين لرفع المطالبة قال صلى الله عليه وسلم إن الله إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا وقال صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطاء والنسيان فلا يؤاخذهم الله به في الدنيا ولا في الآخرة فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب واختلفوا في الحكم وكذلك في الخطاء على قدر ما شرع الشارع في أشخاص المسائل فمن أفطر ناسيا في رمضان فطائفة أوجبت القضاء عليه مع رفع الإثم وقوم لم يوجبوا القضاء عليه مع ارتفاع الإثم أيضا فإن الله أطعمه وسقاه هذا قول الشارع فيه فهذا من الرحمة المبطونة فيه أعني في النسيان وكذلك ما نسي من القرآن ولم يتذكر فينقل إلينا فيكون زيادة علينا في التكليف فرحم عباده بذلك وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول اتركوني ما تركتكم وقال لو قلت نعم للسائل عن الحج في كل عام لوجبت وكانت الأحكام تحدث بحدوث السؤال عن النوازل فكان غرض النبي صلى الله عليه وسلم حين علم ذلك أن يمتنع الناس عن السؤال ويجرون مع طبعهم حتى يكون الحق هو الذي يتولى من تنزيل الأحكام ما شاء فكانت الواجبات والمحظورات تقل وتبقي الكثرة في قبيل المباحات التي لا يتعلق بها أجر ولا وزر فأبت النفوس قبول ذلك وأن تقف عند الأحكام المنصوص عليها فأثبتت لها عللا وجعلتها مقصودة للشارع وطردتها وألحقت المسكوت عنه في الحكم بالمنطوق به بعلة جامعة بينهما اقتضاها نظر الجاعل المجتهد ولو لم يفعل لبقى المسكوت عنه على أصله من الإباحة والعافية فكثرت الأحكام بالتعليل وطرد العلة والقياس والرأي والاستحسان وما كان ربك نسيا ولكن بحمد الله جعل الله في ذلك رحمة أخرى لنا لولا إن الفقهاء حجرت هذه الرحمة على العامة بإلزامهم إياها مذهب شخص معين لم يعينه الله ولا رسوله ولا دل عليه ظاهر كتاب ولا سنة صحيحة ولا ضعيفة ومنعوه أن يطلب رخصة في نازلته في مذهب عالم آخر اقتضاه اجتهاده وشددوا في ذلك وقالوا هذا يفضي إلى التلاعب بالدين وتخيلوا أن ذلك دين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تصدق عليكم فأقبلوا صدقته فالرخص مما تصدق الله بها على عباده وقد أجمعنا على تقرير حكم المجتهد وعلى تقليد العامي له في ذلك الحكم لأنه عنده عن دليل شرعي سواء كان صاحب قياس أو غير قائل به فتلك الرخصة التي رآها الشافعي في مذهبه على ما اقتضاه دليله قد قررها الشرع فيمنع المفتي من المالكية المالكي المذهب أن يأخذ برخصة الشافعي التي تعبده بها الشارع وإنما أضفناها إلى الشارع لأن الشرع قررها بمنعه مما يقتضيه الدليل في الأخذ به بأمر لا يقتضيه الدليل الذي لا أصل له وهو ربط الرجل نفسه بمذهب خاص لا يعدل عنه إلى غيره ويحجر عليه ما لم يحجر الشرع عليه وهذا من أعظم الطوام وأشق المكلف على عباد الله فالذي وسع الشرع بتقرير حكم المجتهدين من هذه الأمة ضيقه عوام الفقهاء وأما الأئمة مثل أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي فحاشاهم من هذا ما فعله واحد منهم قط ولا نقل عنهم إنهم قالوا لأحد اقتصر علينا ولا قلدني فيما أفتيتك به بل المنقول عنهم خلاف هذا رضي الله عنهم ومما يتضمنه هذا المنزل الفرق بين تعلق علمه سبحانه بما يسره العبد في نفسه وبين ما يبديه ويظهره وهل يرجع ذلك إلى نسبة واحدة أو نسبتين ويتعلق بهذا الباب ما يريده الحق بقوله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم فهاتان حالتان في الذكر والعلم فاعلم إن للحق سبحانه غيبا ومظهرا فبما هو غيب له الاسم الباطن وهو ذكره عبده في نفسه وعلمه بما يسره ومع ذلك الاسم يكون سر العبد الذي يعلمه الحق وذكر النفس الذي يذكر العبد به ربه وبما له المظهر من الاسم الظاهر وهو ذكره تعالى عبده في ملأ من ملائكته أو ملأ الأسماء الإلهية وعلمه بما يبديه العبد في عالم الشهادة ومع ذلك الاسم يكون علانية
(٦٨٥)