الإنسان في نفسه ثم إن الله تعالى جعل له في الجسم الذي جعله الله له ملكا واستوى عليه جعل فيه قوى وآلات حسية ومعنوية وقيل له خذ العلوم منها وصرفها على حد كذا وكذا وجعلت له هذه الآلات على مراتب فالقوى المعنوية كلها قوى كاملة إلا قوة الخيال فإنها خلقت ضعيفة والقوة الحساسة وجعلت هاتان القوتان تابعة للجسم فكلما نما الجسم وكبر وزادت كميته كلما تقوى حسه وخياله إذ كانت جميع القوي لا تأخذ الأشياء إلا من الخيال وهي قوة هيولانية قابلة لجميع ما يعطيها الحس من الصور وقابلة لما تفتح فيها القوة المصورة من الصور التي تركبها من أمور موجودة قد أمسكها الخيال من القوة الحساسة وليس في القوي من يشبه الهيولى في قبول الصور إلا الخيال فإذا تقوى الخيال حينئذ وجد الفكر حيث يتصرف ويظهر سلطانه والوهم كذلك والعقل كذلك والقوة الحافظة كذلك فلم تكن لطيفة الإنسان من حيث ذاتها مدركة لما تعطيها هذه القوي إلا بوساطتها فلو اتفق أن تعطيها هذه القوي المعلومات من أول ما يظهر الولد في عالم الحس قبلها الروح الإنساني قبولا ذاتيا ألا ترى أن الله قد خرق العادة في بعض الناس في ذلك وهو ما ذكر من صبي يوسف حين شهد له بالبراءة وكلام عيسى عليه السلام حين شهد بالبراءة وصبي جريج حين شهد له بالبراءة هذا سبب تأخير التكليف عن الروح الإنساني إلى الحلم الذي هو حد كمال هذه القوي في علم الله فلم يبق عند ذلك عذر للروح الإنساني في التخلف عن النظر والعمل بما كلفه ربه وأول درجات التكليف إذ كان ابن سبع سنين إلى أن يبلغ الحلم وقد اعتبر الله فعل الصبي في غير زمان تكليفه لو قتل لم يقم عليه الحدو حبس إلى أن يبلغ ويقتل بمن قتل في صباه إلا أن يعفو ولي الدم فقد آخذه الله بما لم يعمله في زمان تكليفه والقصد من هذا التمهيد ليقع الأنس بما نورده من عذاب المؤمن فإن الإنسان كما قلنا خلق مؤمنا وإن ألحقناهم بآبائهم في دفنهم في قبورهم معهم ورقهم إذا ملكناهم بطريق الإلحاق لا بطريق الاستحقاق تشريفا وتبيينا لعلو مرتبة ظهور الايمان الذي في الآباء وكما أن الكفر عارض كان الاسترقاق عارضا أيضا والأصل الحرية والايمان فمن إنفاذ الوعيد من حيث لا يشعر به وجود التكليف وهو أول العذاب لقيام الخوف بنفس المكلف فقد عذب عذابا نفسيا مؤلما وهو عقوبة ما جرى منه في الزمان الذي لم يكن فيه مكلفا من الأفعال التي تطرأ بين الصبيان من الأذى والشتم والضرب على طريق التعدي وكل خير يفعله الصبي يكتب له وقد قرر ذلك الشارع حين رفعت امرأة إليه صلى الله عليه وسلم صبيا صغيرا وهو في الحج فقالت له يا رسول الله ألهذا حج فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم له حج ولك أجر وذلك أن لها أجر المعونة التي لا يقدر الصبي عليها وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصبي إذا حج قبل بلوع التكليف ثم مات قبل البلوغ كتب الله له ذلك الحج عن فريضته وكذلك العبد إذا حج عبدا ثم مات قبل العتق وهذا الحديث وإن كان قد تكلم فيه من طريق إسناده فإن الحديث الصحيح يعضده وقد ورد في الصحيح أن الله يقول يوم القيامة في حق العبد يأتي بما فرض الله عليه ناقصا قد انتقص منه شيئا أن يكمل له من تطوعه ما نقص من ذلك فقد أقام التطوع مقام الفرض وهو هذا بعينه لأن حج غير المكلف به ليس هو فرض عليه قال صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى في الحديث الصحيح إنه أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة فيقول الله انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه قال صلى الله عليه وسلم ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم أي فيفعل في الزكاة والصوم والحج مثل ما فعل في الصلاة سواء فلو لم يعتبر الشرع ذلك لم يحكم بهذا وكل ما يفعله الصبي في غير بلوع زمان التكليف معتبر في الشرع في الخير وفي الشر غير إن الكرم الإلهي جازاه بالخير المعمول في هذا الزمان في الدار الآخرة وادخر له ذلك وأما الشر فلم يدخر له في الآخرة منه شيئا بل جازاه به في الدنيا من آلام حسية ونفسية تطرأ على الصبيان وهي موجودة لا يقدر أحد على إنكارها وهي عقوبات وعذاب لأمور تطرأ من الصبيان يعرف هذا القدر أهل طريقنا حكمة أوقفهم الحق عليها وهي في حق المؤمنين كما قلنا عذاب أوجب لهم الكفارة وفي حق الكفار إذا أدركوا وماتوا وهم كفار وعوقبوا في الآخرة وقد كانوا عذبوا في الدنيا وهم صغار مثل ما تعذب المؤمنون في حال صغرهم فذلك قوله تعالى زدناهم عذابا فوق العذاب يعني الذي عذبوا به في
(٦٩١)