وتقليبي مع الهجران عندي * ألذ من العناق مع الوصال فإني في الوصال عبيد نفسي * وفي الهجران عبد للموالي وشغلي بالحبيب بكل وجه * أحب إلي من شغلي بحالي ففي هذا الشعر ايثار مآثره المحبوبة ويتضمن ما أشرنا إليه في كلامنا قبله وأما قولنا إن المحبوب صفة المحب فيما ذكرناه فهو قوله تعالى فإذا أحببته كنت سمعه وبصره فجعل عينه سمع العبد وبصره فأثبت أنه صفته فما أحب المحب البعد إلا بمحبوبه وهذا غاية الوصلة في عين البعد (منصة ومجلى) نعت المحب بأنه خائف من ترك الحرمة في إقامة الخدمة وذلك أنه لا يخاف من هذا إلا عارف متوسط لم يبلغ التحقيق في المعرفة إلا أنه يشعر به من غير ذوق سوى ذوق الشعور وهو محب والمحب مطيع لمحبوبه في جميع أوامره وتحقيق الأمر يعطي أن الآمر عين المأمور والمحب عين المحبوب إلا إن الظاهر يظهر بحسب ما تعطيه حقيقة المظهر وبالمظاهر تظهر التنوعات في الظاهر وتختلف الأحكام والأسامي وبها يظهر الطائع والعاصي فالذي هو في مقام الشعور ولم يحصل في حد أن ينزل الأشياء منازلها في الظاهر يخاف أن يصدر منه ما يناقض الحرمة في خدمته إذ يقول ليس إلا هو كما يذهب إلى ذلك من يرى الأعيان عينا واحدة ولكن لا يعرف كيف فلا يزال يسئ الأدب لأنه أخذ ذلك عن غير ذوق وهذا مذهب من يرى أن المدبر أجسام الناس روح واحدة وأن عين روح زيد هو عين روح عمرو وفيه من الغلط ما قد ذكرناه في غير هذا الموضع وهو أنه يلزم ما يعلمه زيد لا يجهله عمرو لأن العالم من كل واحد عين روحه وهو واحد والشئ الواحد لا يكون عالما بالشئ جاهلا به فيخاف المحب إن صدرت منه قلة حرمة بهفوة وغلط أن يستند فيها بعد وقوعها إلى ما ذكرناه فيحصل في قلة المبالاة بما يظهر عليه من ذلك والمحبة تأبى إلا حرمة المحبوب وإن كان المحب مدلا بحبه لغلبة الحب عليه وأنه يرى نفسه عين محبوبه فيقول أنا من أهوى ومن أهوى أنا فهذا سبب خوفه لا غير (منصة ومجلى) نعت المحب أن يستقل الكثير من نفسه في حق ربه ويستكثر القليل من حبيبه وذلك أنه يفرق بين كونه محبا لما يرى في نفسه من الانكسار والذلة والدهش والحيرة التي هي أثر الحب في المحبين ويرى نخوة المحبوب وتيهه ورياسته وإعجابه عليه فيرى أنه إذا أعطاه جميع ما يملكه فهو قليل لما أعطاه من نفسه وأن حق محبوبه أعظم عنده من حق نفسه بل لا يرى لنفسه حقا وإن كان في الحقيقة ما يسعى إلا في حق نفسه هكذا تعطيه المحبة كان لبعض الملوك مملوك يحبه اسمه إياس فدخل على الملك بعض جلسائه ورأى قدمي المملوك في حجر الملك والملك يكبسهما فتعجب فقال إياس يا هذا ما هذه أقدام إياس هذه قلب الملك في حجره يكبسه هذا معنى قولنا إن المحب في حق نفسه يسعى فإنه له في ذلك الفعل لذة عظيمة لا ينالها إلا بذلك الفعل فالمحبوب ممتن عليه إذ أمكنه مما تقع للمحب به لذة من المحبوب فيرى المحب أي شئ جاء من المحبوب فهو كثير فهو إنعام سيد على عبد وأي شئ كان من المحب في حق المحبوب ولو كان تلف الروح والمهجة في رضاه لكان قليلا لأنه طاعة عبد لسيد محسان وما قدروا الله حق قدره فالمحبوب غني فقليله كثير والمحب فقير فكثيره قليل ولكن وإن كان هذا نعت المحب عندهم فهو نعت محب ناقص المعرفة كثير الحب على عماية لأن المحب إذا كان المخلوق ليس له حتى يستقل أو يستكثر وأما إذا كان المحب الله فإنه يستكثر القليل من عبده وهو قوله فاتقوا الله ما استطعتم ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وأما استقلاله الكثير في حق أحبابه من عباده فإن ما عند الله ما له نهاية ودخول ما لا نهاية له في الوجود محال فكل ما دخل في الوجود فهو متناه فإذا أضيف ما تناهى إلى ما لا يتناهى ظهر كأنه قليل أو كأنه لا شئ وإن كان كثيرا وهنا نظر يطول فاقتصرنا (منصة ومجلى) نعت المحب يعانق طاعة محبوبه ويجانب مخالفته قال شاعرهم تعصى الإله وأنت تظهر حبه * هذا محال في القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته * إن المحب لمن يحب مطيع المحب عبد والعبد من وقف عند أوامر سيده وتجنب مخالفة أوامره ونواهيه فلا يراه حيث نهاه ولا يفقده حيث أمر
(٣٥٣)