فالكل للعبد المحبوب عند الله فما في الحضرة الإلهية شئ إلا للعبد المحبوب فإن الله بذاته غني عن العالمين فهو غني عن الكثرة وعن الدلالة عليه (منصة ومجلى) نعت المحب بأنه يعتب نفسه بنفسه في حق محبوبه وذلك أن المحب يرى أنه يعجز عما لمحبوبه عليه من الحقوق التي أوجبها حبه عليه ولا علم له بطريق الإحاطة بمحاب محبوبه فيجهد في أنه يعمل بقدر ما علم من ذلك ثم يقول لنفسه لو صدقت في حبك لكشف لك عن جميع محابه فإنك في دار التكليف وهي دار محصورة ومحاب الحبيب فيها معينة بخلاف الآخرة فإنك مسرح العين فيها لأنها كلها محابه فلا عتاب هناك فلهذا عتب المحب هنا نفسه بنفسه في حق محبوبه المحب الله وصف نفسه بالتردد في حق حبه للعبد المؤمن إذ من حق المحبوب أن لا يعمل له المحب ما يكرهه والمحبوب يكره الموت والحق يكره مساءته من حيث ما هو محبوب له فهذا معنى العتب ولا بد له من الموت لما سبق من العلم ولكن لجهل العبد بما له في اللقاء من الخير بخلاف المحبين فإنهم يحبون الموت لا للراحة بل للالتقاء مع المحبوب ومن المحبين من يغلب عليه رضي المحبوب ويرى أنه لا يحصل ذلك على حالة يعرف بها قدر حب المحب إلا بوجود التحجير وتميز ما يرضى مما يسخط ولا يكون له ذلك إلا في دار التكليف وأما في الآخرة فلا تحجير فيقع التساوي فيرتفع تميز قدر المحب في تصرفه من غير المحب فيكره بعض المحبين الموت لهذا المعنى وهذا لصدقهم في المحبة والمحب الله أيضا في هذه الحقيقة وقد قضى بالموت على الجميع وكان غرض هذه الطائفة المخصوصة التي تريد التمييز أن لا يرتفع عنها التحجير لتعلم قدر محبتها لسيدها على غيرها من الطوائف ويأبى سبق العلم بالكائن إلا أن يكون فهذا القدر يسمى عتبا في حق الحق يميزه قوله تعالى فعال لما يريد لا بل يميزه ويختار خاصة والذي يفهم أيضا من قوله ولو شاء فهذا وأمثاله موجب العتب لا الإرادة ولا العلم فإن الحكم لهما فتفطن لما ذكرناه فكل ذلك أسرار إلهية غاروا عليها أصحابنا لما رأوا من عظيم قدرها وهو كما قالوه غير إن هذا الذي أبرزنا منها بالنظر إلى ما عندنا من العلم بالله فشر فهذا سبب أقدامنا على إبرازه ولما فيه من المنفعة في حق العباد (منصة ومجلى) نعت المحب بأنه ملتذ في دهش الدهش سببه فجأة المحبوب وهو المعبر عنه بالهجوم وسيأتي له باب في هذا الكتاب ولما كان الحق دعا قلوب العباد إليه وشرع لهم الطريق الموصلة المشروعة وتعرف إليهم بالدلالات فعرفوه وتحبب إليهم بالنعم فأحبوه فلما تجلى لهم على غير موعد عند ما دخلوا عليه وهم غير عارفين بأنهم في حال دخول عليه فجئهم تجليه فعرفوه بالعلامة فدهشوا لفجأة التجلي والتذوا لعلمهم بالعلامة في نفوسهم أنه حبيبهم ومطلوبهم فهذا التذاذهم في دهش المحب الله وصف نفسه بالاختيار وإنه على كل شئ قدير وإنه لو شاء فعل وإنه لا مكره له وهو الصادق في قوله وما حكم به على نفسه وهو أيضا المقيت فقد ترتبت الأمور ترتيب الحكمة فلا معقب لحكمه فهو في كل حال يفعل ما ينبغي كما ينبغي لما ينبغي فعل حكيم عالم بالمراتب فتأتيه أسئلة السائلين وما يوافق توقيت الإجابة في عين ما سألوه فيه وقد تقرر أنه لا مكره له ولا بد من التوقف عند هذا السؤال لمناقضته إذا أجابه ترتيب الحكمة فهذا المقدار يسمى دهشا وأما التذاذه فإن السائل في ذلك محبوب فهو يحب سؤاله ودعاءه كما قد ورد في الخبر أن شخصين محبوب لله وبغيض سألا الله في حاجة فأوحى الله للملك أن يقضي حاجة البغيض مسرعا حتى يشتغل عن سؤاله لكونه يبغضه ويبغض صوته ويقول للملك توقف عن حاجة فلان فإني أحب أن أسمع صوته وسؤاله فإني أحبه فهذا مقضي الحاجة على بغض وهذا غير مقضي الحاجة مع حب وعناية فلو كشف لهذا المحبوب هذا السر في وقت تأخر الإجابة ما وسعه شئ من الفرح بذلك فالتوقف عن الإجابة كتوقف الداهش لصدق قوله في أنه لا مكره له والالتذاذ علمه بأنه لا بد من وصوله إلى ما طلب وفرحه به فسبحان العزيز الحكيم (منصة ومجلى) نعت المحب بأنه جاوز الحدود بعد حفظها هذا معين في أحباء أهل بدر فإنهم ممن جاوزوا الحدود بعد حفظها فقال لهم افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأما في غير المعينين في العموم وهم معينون في الخصوص وقد عين الحق صفتهم فهو ما ذكر الله سبحانه في قوله أذنب عبد ذنبا فعلم إن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب فقال في الرابعة أو في الثالثة اعمل ما شئت فقد غفرت لك فأباح له وأخرجه من التحجير في الدنيا إذ كان الله لا يأمر بالفحشاء فما عصى الله صاحب هذه
(٣٥٧)