حبهم كان منقسما فاجتمع عليه في الآخرة لما لم يعاين محبوبه وهو الألوهة إلا فيه خاصة فلذلك كان سبق الرحمة وقوة الطرفين وضعف الواسطة بما فيها من الشركة وقد بينا ذلك كله فيما تقدم فهذا الفرق بين الحب والهوى وأما العشق فهو إفراط المحبة أو المحبة المفرطة وهو قوله في الذين آمنوا أشد حبا لله وهو مع صفاته لو أخذ الذي هو مسمى الحب وظهوره في حبة القلب الذي أيضا به سمي حبا فإذا عم الإنسان بجملته وأعماه عن كل شئ سوى محبوبه وسرت تلك الحقيقة في جميع أجزاء بدنه وقواه وروحه وجرت فيه مجرى الدم في عروقه ولحمه وغمرت جميع مفاصله فاتصلت بوجوده وعانقت جميع أجزائه جسما وروحا ولم يبق فيه متسع لغيره وصار نطقه به وسماعه منه ونظره في كل شئ إليه ورآه في كل صورة وما يرى شيئا إلا ويقول هو هذا حينئذ يسمى ذلك الحب عشقا كما حكي عن زليخا أنها افتصدت فوقع الدم في الأرض فانكتب به يوسف يوسف في مواضع كثيرة حيث سقط الدم لجريان ذكر اسمه مجرى الدم في عروقها كلها وهكذا حكي عن الحلاج لما قطعت أطرافه أنكتب بدمه في الأرض الله الله حيث وقع ولذلك قال رحمه الله ما قد لي عضو ولا مفصل * إلا وفيه لكم ذكر فهذا من هذا الباب وهؤلاء هم العشاق الذين استهلكوا في الحب هذا الاستهلاك وهو الذي يسمى بالغرام وسيأتي ذكره في نعت المحبين إن شاء الله وأما الود فهو ثبات الحب أو العشق أو الهوى أية حالة كانت من أحوال هذه الصفة فإذا ثبت صاحبها الموصوف بها عليها ولم بغيره شئ عنها ولا أزاله عن حكمها وثبت سلطانها في المنشط والمكره وما يسوء ويسر في حال الهجر والطرد من الموجود الذي يحب أن يظهر فيه محبوبه ولم يبرح تحت سلطانه لكونه مظهر محبوبه سمي لذلك ودا وهو قوله تعالى سيجعل لهم الرحمن ودا أي ثباتا في المحبة عند الله وفي قلوب عباده هذا معنى الود وللحب أحوال كثيرة جدا في المحبين سأذكرها إن شاء الله مثل الشوق والغرام والهيام والكلف والبكاء والحزن والكبد والذبول والانكسار وأمثال ذلك مما يتصف به المحبون ويذكرونه في أشعارهم مفصلة إن شاء الله وقد يقع في الحب أغاليط كثيرة أولها ما ذكرناه وهو إنهم يتخيلون أن المحبوب أمر وجودي وهو أمر عدمي يتعلق الحب به أن يراه موجودا في عين موجودة فإذا رآه انتقل حبه إلى دوام تلك الحال التي أحب وجودها من تلك العين الموجودة فلا يزال المحبوب معدوما وما يشعر بذلك أكثر المحبين إلا أن يكونوا عارفين بالحقائق ومتعلقاتها وقد بينا ذلك وأكثر كلامنا في هذا الباب إنما هو في المحبة المفرطة فإنها تذهب بالعقول أو تورث النحول والفكر الدائم والهمم اللازم والقلق والأرق والشوق والاشتياق والسهاد وتغيير الحال وكسوف البال والوله والبله وسوء الظن بالمحبوب أعني الموجود الذي تحب ظهور محبوبك فيه الذي تزعم العامة فيه أنه المحبوب لها ونحن فيه على نوعين طائفة منا نظرت إلى المثال الذي في خيالها من ذلك الموجود الذي يظهر محبوبه فيه ويعاين وجود محبوبه وهو الاتصال به في خياله فيشاهده متصلا به اتصال لطف ألطف منه في عينه في الوجود الخارج وهو الذي اشتغل به قيس المجنون عن ليلى حين جاءته من خارج فقال لها إليك عني لئلا تحجبه كثافة المحسوس منها عن لطف هذه المشاهدة الخيالية فإنها في خياله ألطف منها في عينها وأجمل وهذا ألطف المحبة وصاحب هذا النعت لا يزال منعما لا يشكو الفراق ولنا في هذا النعت اليد الطولي بين المحبين فإن مثل هذا في المحبين عزيز الوجود لغلبة الكثافة عليهم وسبب ذلك عندنا أنه من استفرع في حب المعاني المجردة عن المواد فغايته إذا كثفها أن ينزلها إلى الخيال ولا ينزل بها أكثر فمن كان أكشف حاله الخيال فما ظنك بلطافته في المعاني وهذا الذي حاله هذا هو الذي يمكن أن يحب الله فإن غايته في حبه إياه إذا لم يجرده عن التشبيه أن ينزله إلى الخيال وهو قوله ع اعبد الله كأنك تراه فإذا أحببنا ونحن بهذه الصفة موجودا نحب ظهور محبوبنا فيه من المحسوسات عالم الكثائف نلطفه بأن نرفعه إلى الخيال لنكسوه حسنا فوق حسنه ونجعله في حضرة لا يمكنه الهجر معها ولا الانتقال عنها فلا يزال في اتصال دائم ولنا في ذلك ما لمجنون عامر من هواه * غير شكوى البعاد والاغتراب وأنا ضده فإن حبيبي * في خيالي فلم أزل في اقتراب
(٣٣٧)