الملكات الشرية كلها نيرانات محرقة للقلوب وشعلات مؤلمة للنفوس وهذه النيرانات التي ظهرت في النشأة الآخرة هي بعينها موجودة في نفوس الأشرار وإنما لم يحسوا بها لأنها لا تدرك نحو وجودها وظهورها بهذه الحواس والمشاعر الدنياوية فإن لكل حقيقة في كل نشأة ظهورا خاصا ومشعرا مخصوصا لإدراكه فكما أن الأمور العقلية والخيالية والوهمية لا يدرك بعينها بالحواس الظاهرة فكذلك الأمور الأخروية لا يدرك بهذه الآلات فإن نار النشأة الآخرة وإن كانت موجودة بالفعل لا يمكن مشاهدتها بهذه الباصرة الدنياوية ولا التألم بعذابها بهذه اللامسة الأولية بل يخلق الله تعالى للنفوس الشقية باصرة أخرى يتهيأها لمشاهدة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ولامسة أخرى لملامستها المؤذية والتألم بفظاعتها وسامعة أخرى لاستماع أصواتها الهائلة والمولمة.
وجملة القول في الجواب أن مرتبة القوة والاستعداد لتحصيل الملكات في الدنيا بطلت عن النفوس وتمنى الرجوع إلى كونها بالقوة كما في قوله تعالى حكاية عنها: يا ليتني كنت ترابا تمني أمر مستحيل الوقوع إذ الشيء بالفعل يستحيل أن يصير بالقوة بخلاف العكس فإنه واقع.
ومنها أن الفسقة والجهال ربما قلت شواغلها الحسية لنوم أو مرض كالممرودين فتطلع على أمور غيبية وذلك لاتصالها بعالم القدس فلما جاز للأشقياء مفارقة البدن والاتصال بالمبادي العلوية والتلذذ بها حين اغترافها للشهوات فعند فساد البدن وعدم الاشتغال بشهواته أولى فأين يتحقق الشقاوة والتعذب المتوعد عليه في لسان الشرائع والنبوات فلا محالة ينبغي أن لا ينقطع علاقة الأشقياء عن الأجرام لحصول التعذب فيها بسبب اقتراف الخطيئات فلا بد أن ينتقل نفوس العصاة والمذنبين إلى شيء من الحيوانات المعذبة في الدنيا على حسب أخلاقهم وعاداتهم