تنبيه قد تبين وتحقق بشواهد الشرع وبصائر العقل أن مقصود الشرائع كلها سياقة الخلق إلى جوار الله وسعادة لقائه والارتقاء من حضيض النفس إلى ذروة الكمال ومن هبوط الأجسام الدنية إلى شرف الأرواح العلية وذلك لا يتيسر إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته والاعتقاد بملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر.
لأن قوام الممكن بالواجب وقوام العبد بالرب فما لم يعرف العبد نفسه بالعبودية فلم يعرف نفسه ولا ربه وما لم يعرف ربه بالربوبية فكذلك لم يعرف ربه ولا نفسه إذ كما أن معنى العبودية مقوم له كذلك معنى الإلهية والربوبية عن ذاته تعالى بمعنى أن ذاته من غير انضمام معنى إليه إله ورب للعالم.
ولهذا قال الله تبارك وتعالى و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون أي ليكونوا عبيدا.
وفيه سر النفس حيث يكون حقيقتها جوهر نوري عقلي لا وجود له ما لم يصر عقلا بالفعل وهي مع ذلك لمعة من لمعات نور الله المعنوية فما لم يعرف نفسه كذلك وربه كذلك لم يكن نفسه موجودا بل صارت نسيا منسيا كالمعدوم رأسا. وإليه أشار سبحانه بقوله: نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
فقد علم أن مقصود الشرائع ليس إلا معرفة الله والصعود إليه بسلم معرفة النفس بالذلة والعبودية وكونها لمعة من لمعات ربه مستهلكة فيه فهذا هو الغاية القصوى في بعثة الأنبياء لكن لا يحصل هذا إلا في الحياة الدنيا لكون النفس في الأول لكونها ناقصة بالقوة كما علمت والارتقاء من حال نقص إلى حال تمام لا يكون إلا بحركة وزمان ومادة قابلة.
ووجود هذه الأشياء من خصائص هذه النشأة الحسية وهو المعنى بقوله عليه:
الدنيا مزرعة الآخرة.
فصار حفظ الدنيا التي هي النشأة الحسية للإنسان أيضا مقصودا ضروريا تابعا للدين لأنه وسيلة إليه.
والمتعلق من أمور الدنيا بمعرفة الحق الأول والزلفى لديه