من البلاء الموقوف إزالته على الطب ولا يقدح في صبرهم شكواهم إلى الله في رفع ذلك البلاء عنهم ألا ترى أيوب سأل ربه رفع البلاء عنه بقوله مسني الضر وأنت أرحم الراحمين أي أصاب مني فشكا ذلك إلى ربه عز وجل وقال له وأنت أرحم الراحمين ففي هذه الكلمة إثبات وضع الأسباب وعرض فيها لربه برفع البلاء عنه فاستجاب له ربه وكشف ما به من الضر فأثبت بقوله تعالى فاستجبنا له أن دعاءه كان في رفع البلاء فكشف ما به من ضر ومع هذا أثنى عليه بالصبر وشهد له به فقال إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب أي رجاع إلينا فيما ابتليناه به وأثنى عليه بالعبودية فلو كان الدعاء إلى الله في رفع الضر ورفع البلاء يناقض الصبر المشروع المطلوب في هذا الطريق لم يثن الله على أيوب بالصبر وقد أثنى عليه به بل عندنا من سوء الأدب مع الله أن لا يسأل العبد رفع البلاء عنه لأن فيه رائحة من مقاومة القهر الإلهي بما يجده من الصبر وقوته قال العارف إنما جوعني لأبكي فالعارف وإن وجد القوة الصبرية فليفر إلى موطن الضعف والعبودية وحسن الأدب فإن القوة لله جميعا فيسأل ربه رفع البلاء عنه أو عصمته منه أن توهم وقوعه وهذا لا يناقض الرضاء بالقضاء فإن البلاء إنما هو عين المقضي لا القضاء فيرضى بالقضاء ويسأل الله في رفع المقضي عنه فيكون راضيا صابرا فهؤلاء أيضا هم الصابرون الذين أثنى الله عليهم ومن الأولياء أيضا الخاشعون والخاشعات رضي الله عنهم تولاهم الله بالخشوع من ذل العبودية القائم بهم لتجلى سلطان الربوبية على قلوبهم في الدار الدنيا فينظرون إلى الحق سبحانه من طرف خفي يوجده الله لهم في قلوبهم في هذه الحالة خفي عن إدراك كل مدرك إياه بل لا يشهد ذلك النظر منهم إلا الله فمن كانت حالته هذه في الدار الدنيا من رجل وامرأة فهو الخاشع وهي الخاشعة فيشبه القنوت من وجه إلا أن القنوت يشترط فيه الأمر الإلهي والخشوع لا يشترط فيه إلا التجلي الذاتي وكلتا الصفتين تطلبهما العبودية فلا يتحقق بهما إلا عبد خالص العبودية والعبودة وله حال ظاهر في الجوارح التي لها الحركات وحال باطن في القلوب فيورث في الظاهر سكونا ويؤثر في الباطن ثبوتا والقنوت يورث في الظاهر بحسب ما ترد به الأوامر من حركة وسكون فإن كان القانت خاشعا فحركته في سكون ولا بد إن ورد الأمر بالتحرك فيورث القنوت في الباطن انتقالات أدق من الأنفاس متوالية مع الأوامر الإلهية الواردة عليه في عالم باطنه فالخاشفي قنوته في الباطن ثبوته على قبول تلك الأوامر الواردة عليه من غير أن يتخللها ما يخرجها عن أن تكون مشهودة لهذا الخاشع فالخاشع والقانت خشوعه وقنوته إخوان متفقان في الموفقين من عباد الله ومن الأولياء أيضا المتصدقون والمتصدقات رضي الله عنهم تولاهم الله بجوده ليجودوا بما استخلفهم الله فيه مما افتقر إليه خلق الله فأحوج الله الخلق إليهم لغناهم بالله فالكلمة الطيبة صدقة ولما كان حالهم التعمل في الإعطاء لا العمل دل على أنهم متكسبون في ذلك لنظرهم أن ذلك ليس لهم وإنما هو لله فلا يدعون فيما ليس لهم فلا منة لهم في الذي يوصلونه إلى الناس أو إلى خلق الله من جميع الحيوانات وكل متغذ عليهم لكونهم مؤدين أمانة كانت بأيديهم أوصلوها إلى مستحقيها فلا يرون أن لهم فضلا عليهم فيما أخرجوه وهذه الحالة لا يمدحون بها إلا مع الدوام والدءوب عليها في كل حال والعارفون هنا في هذه الصفة على طبقتين منهم من يكون عين ما يعطيه مشهودا له أنه حق لمن يعطيه لأن الله ما خلق الأشياء التي يقع بها الانتفاع لنفسه وإنما خلق الخلق للخلق فهذا معنى الاستحقاق وطبقة أخرى يكون مشهودا لهم كون خالق النعمة مختارا فيبطل عندهم الاستحقاق بأنهم يرون أن الله ما خلق الخلق أجمعه إلا لعبادته ولهذا قال وإن من شئ إلا يسبح بحمده ويسجد له وكان إيصال بعض الخلق للخلق بحكم لتبعية لا بالقصد الأول وإن لم يكن هناك ما يقال فيه قصد أول ولا ثان ولكن العبارات من أجل إبراز الحقائق تعطي ذلك ولله عباد من المتصدقين أقامهم الحق بين هاتين الطبقتين فهم ينظرون في حين كونهم متصدقين الاستحقاق لبقاء عين من تصدق عليه ليصح منه ما خلق له من التسبيح لربه والثناء عليه ولكن لا من حيث إنه آكل مثلا ولا شارب في حق من يكون بقاؤه بالأكل والشرب فذلك لا يكون باستحقاق وإنما الاستحقاق ما به بقاؤه وأسبابه كثيرة ثم تنظر هذه الطبقة الثالثة المتولدة بينهما من عين آخر معا وهو أن تنظر إلى الحق من حيث ما تقتضيه ذاته فيرتفع عندها الاختيار وترى أن المظاهر الإلهية هي المسبحة فلا يسبح الله إلا الله ولا يحمده إلا
(٢٩)