إلى عطر يعمل له فلم يجد في الأهواز من يعلمه فبعث إلى البصرة فحمل عطارين فيهم أستاذ أبي نواس وأبو نواس معه فكانوا يعملون في داره وقدم عليه والبة بن الحباب الأسدي الشاعر وهو ابن عمه فرأى أبا نواس فاعجب بظرفه فقال له اني أرى فيك مخايل فلاح وارى لك ان لا تضيعها وستقول الشعر وتعلو فيه فاصحبني حتى أخرجك فقال له ومن أنت قال أبو اسامة قال والبة قال نعم قال انا والله جعلت فداك في طلبك وقد أردت الخروج إلى الكوفة والى بغداد من اجلك فمضى معه انتهى ثم فارقه ورجع إلى البصرة قال ابن منظور: لما رجع أبو نواس من الكوفة إلى البصرة وفارق والبة قيل له أرغبت عن والبة ومللت الكوفة فقال هي أجدى وأطيب من أن تمل ووالبة ممن لا يرغب عنه ولكني نزعت إلى الأوطان واشتقت إلى الاخوان انتهى ثم ذهب إلى بغداد وبعض المؤرخين يقول إنه ذهب إلى بغداد مع والبة ولم تعلم مدة بقائه في البصرة ثانيا بعد عوده إليها من الكوفة ولكن من المحقق ان وجوده عند العطار كان في زمن طفولته ويظهر ان ذهابه مع والبة كان بعد ما ترعرع شيئا ما وان بقاءه في البصرة ثانيا كان مدة طويلة طلب فيها العلم والأدب وروى الحديث يدل على ذلك ان مشايخه الذين اخذ عنهم كانوا من أهل البصرة أمثال أبي عبيدة وخلف الأحمر وحماد بن سلمة ويونس وأبي زيد الأنصاري وغيرهم وهؤلاء كلهم بصريون وقد مر قول صاحب المعاهد ان ذهابه إلى بغداد كان بعد ما زاد سنه على الثلاثين ومر ان عمره يوم ذهابه إلى البصرة أولا كان سنتين أو ست سنين فإلى ان تجاوز الثلاثين يكون قد قضى بعض هذه المدة في البصرة وهو أكثرها حتى تمكن من اخذ ما اخذه فيها عن العلماء وبعضها في الكوفة ومن ذلك يعرف قصور عبارة ابن خلكان عند بيان أول امره. ويظهر ان أبا نواس وهو عند العطار كان مائلا إلى غير تلك الصناعة ويطلب الشعراء والأدباء ويسأل عنهم ويتعرف أحوالهم ويخالط العلماء والأدباء بالبصرة ويستفيد منهم ما تسمح به حاله في ذلك الوقت بدليل قول لوالبة لما اخبره باسمه انا والله في طلبك ولقد أردت الخروج إلى الكوفة بسببك لآخذ عنك واسمع منك شعرك كما مر وانه انما تعاطى تلك الصنعة في صغر سنه فلما ترعرع ونما ادراكه عافها وسمت نفسه إلى ما هو أعلى منها وقال ابن منظور: نشا أبو نواس بالبصرة وقرأ القرآن على يعقوب الحضرمي فلما حذق القرآن رمى اليه يعقوب بخاتمه وقال له اذهب فأنت اقرأ أهل البصرة انتهى.
خروجه إلى البادية واخذه عن العرب قال ابن منظور ثم سأله والبة ان يخرج إلى البادية مع وفد بني أسد ليتعلم العربية والغريب فأخرجه مع قوم فأقام بالبادية سنة ثم قدم ففارق والبة ورجع إلى بغداد انتهى والظاهر أن خروجه إلى البادية كان من الكوفة بدليل سؤاله ذلك من والبة لكن قوله ففارق والبة ورجع إلى بغداد يظهر منه ان خروجه إلى البادية كان من بغداد ثم رجع إليها ولعل والبة كان في بغداد فسأله ذلك ويظهر من مجموع ما مر ان أبا نواس ربي يتيما لما مات أبوه بالأهواز فانتقلت به أمه إلى البصرة وعمره سنتان أو ست سنين ومن هنا وقع التوهم بأنه ولد بالبصرة فنشأ وترعرع بالبصرة فأسلمته أمه إلى عطار بالبصرة وهذا هو الدليل على موت أبيه فإنه لو كان حيا لم تسلمه أمه إلى العطار بل كان أبوه هو الذي يسلمه وهذا يدل على أن أباه كان فقيرا لم يخلف ثروة وما هي ثروة جندي يهاجر من وطنه بدمشق إلى الأهواز فيرابط بها لا سيما ان كان أصله راعيا أو حائكا وأمه فقيرة خاملة تغزل الصوف وتنسجه جوارب واخراجا والا لم تتزوج بجندي غريب فقير ولكن أبا نواس بفضل فطنته وذكائه وطلبه العلوم وجده في طلبها وروايته الحديث واخذه عن العلماء من مشاهير علماء البصرة وغيرها ومعاناته اللغة والأدب والشعر وعلو همته بخروجه إلى البادية وإقامته بها سنة يتعلم اللغة هذا وهو يتيم فقير لا مربي له ولا مرشد انتقل من أجير عطار إلى تلميذ علماء وأدباء وشعراء ثم إلى أستاذ علماء نبلاء ثم انتقل إلى معاشرة الخلفاء والملوك والامراء والوزراء أمثال الرشيد والأمين والبرامكة والخصيب والي مصر وغيرهم فيمدحهم ويأخذ جوائزهم وينال الحظوة عندهم ويتقدم على شعراء عصره ويكون نديم الأمين طول خلافته كما في العمدة. ان رجلا كهذا لهو الرجل العصامي الفذ. وهكذا العلم والفضل يرفع الوضيع والجهل يضع الرفيع.
شاعريته أبو نواس في طليعة الشعراء المحدثين بل هو مقدم على جميعهم بشهادة جماعات من أكابر العلماء والأدباء وفحول الشعراء ونقدة الشعر بل تجاوز بعضهم فجعله أشعر الناس وهو أكثر المحدثين تفننا وأبدعهم خيالا مع رقة لفظ وبديع معنى وهو شاعر مطبوع برز في كل فن من فنون الشعر وامتاز عن كل الشعراء بخمرياته وما ضارعها من مجونياته ومن تأمل شعره ونظر ما فيه من الرقة والانسجام وعرف تصرفه في شتى المعاني وصياغته العجيبة وابتكاره المعاني الغريبة وما في شعره من السهولة والامتناع والاخذ بمجامع القلوب والتأثير في النفوس وغير ذلك من الأمور التي هي جماع محاسن الشعر عرف ان تقديمه على جميع المحدثين ليس بحائد عن الصواب وأنت ترى في شعره السهولة والانسجام والعذوبة والرقة وعدم التكلف ملموسة محسوسة فهو يلقيه عفوا ويفيض به طبعه فيضا وهذا لا تكاد تراه لشاعر غيره الا القليل اما هو فتغلب على شعره هذه الصفات حتى لا تكاد تفارقه وناهيك بمن لم يقل الشعر حتى روى لستين امرأة من مشاهير شاعرات العرب أمثال الخنساء وليلى وروى سبعمائة أرجوزة فضلا عن المعروف وحفظ ألف مقطوع للعرب. قال ابن منظور: كان أبو نواس يقول ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنك بالرجال واني لأروي سبعمائة أرجوزة ما تعرف انتهى. وفي تاريخ بغداد عن إسحاق بن إسماعيل قال أبو نواس ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنك بالرجال انتهى. وقال ابن منظور: كان استأذن خلفا الأحمر في نظم الشعر فقال لا آذن لك في عمل الشعر الا ان تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة فغاب عنه مدة وحضر اليه فقال قد حفظتها فقال أنشدها فأنشده أكثرها في عدة أيام ثم سأله ان يأذن له في نظم الشعر فقال له لا آذن لك الا ان تنسى هذه الألف كأنك لم تحفظها فقال له هذا امر يصعب علي فاني قد أتقنت حفظها فقال له لا آذن لك الا ان تنساها فذهب إلى بعض الديرة وخلا بنفسه واقام مدة حتى نسيها ثم حضر فقال قد نسيتها حتى كان لم أكن حفظتها قط فقال له الآن انظم الشعر انتهى هكذا وردت هذه القصة وفيها نظر وتأمل فالنسيان ليس امرا اختياريا وان وقع فلا يكون الا بطول المدة لبعض ما حفظه لا لكله وما حفظ في الصغر لا ينسى ولو طالت المدة وأبو نواس لما حفظها كان صغيرا. ثم إن الحفظ والنسيان وان أمكن ان