يكون له فائدة وهو مرور المعاني على الذهن فيأتي بمثلها وبنسيان ألفاظها يأتي بألفاظ غيرها فيكون ابعد عن النسبة إلى السرقة الا ان الحفظ مع عدم النسيان ربما يكون نفع في القدرة على نظم الشعر. وحسبك من مكانته في الشعر ان يتصدى جماعة من أئمة العلم والأدب لجمع شعره أمثال أبي بكر الصولي وعلي بن حمزة وحمزة بن الحسن الأصبهاني وتوزون الطبري الذي لم يؤلف مؤلفا غير جمع ديوانه وابن السكيت وأبي سعيد السكري بعد ما جمعه راويته يحيى بن الفضل وجمع جماعة منهم المختار من شعره أمثال ابن الداية وأبي هفان وابن الوشاء وابن عمار وآل المنجم والسميساطي كما يأتي عند الكلام على شعره وكما اعتنى العلماء بجمع شعره اعتنوا بشرحه وتفسيره فقد ذكروا ان أبا الفتح عثمان بن جني أحد أئمة العربية المتوفى سنة 392 فسر أرجوزة أبي نواس ولعل المراد بها أراجيزه في الطرد فان له فيه تسعا وعشرين أرجوزة صغارا فيها نعت الكلب والفهد والبازي والزرق والصقر والفرس والديك وحمام يعفور وليث عفرين وهي موجودة في ديوانه وقد بلغ من شغف الناس بشعره ان يعد صاحب خزانة الأدب من نعم الله عليه وجود ديوان أبي نواس عنده كما يأتي عند الكلام على شعره وفيما سنورده من نماذج أشعاره شهادة صادقة بما قلناه.
تقديمه على شعراء عصره كفى أبا نواس منزلة سامية في الشعر تقديمه على جميع شعراء عصره وفيه من فحول الشعراء المجلين في حلبة الشعر ما لا يحصى كثرة ولا يبارى اجادة كيف لا وهو عصر الرشيد وابنيه الأمين والمأمون الذي راج فيه سوق الشعر والأدب رواجا لم يماثله فيه عصر فقد اتسعت فيه المملكة الاسلامية ودان لها الشرق والغرب ودرت الدنيا باخلافها على الخلفاء فكانوا يغدقون العطايا على الشعراء ويجيزونهم بأسنى الجوائز ويصرفون قسما وافرا من بيوت الأموال عليهم ويعرفون قدر الشعر حق معرفته ويخطبون مدائح الشعراء ويترنحون لها ويقيمون لها وزنها واللهى تفتح اللهى. فممن قدمه على جميع الشعراء المحدثين ابن السكيت ومكانه الرفيع بين أهل الأدب لا ينكر. في تاريخ بغداد: قال ميمون بن هارون الكاتب سالت يعقوب بن السكيت عما يختار لي روايته من أشعار الشعراء فقال إذا رويت من الجاهليين لامرئ القيس والأعشى ومن الاسلاميين لجرير والفرزدق ومن المحدثين لأبي نواس فحسبك انتهى. فقد قرنه بامرئ القيس والأعشى من الجاهليين وبجرير والفرزدق من الاسلاميين ولم يقرنه بأحد من المحدثين بل جعله متوحدا متفردا فيهم وحسبك بهذا الذي قاله ابن السكيت مدحا وتقديما وممن قدمه على جميع الشعراء شيخه أبو عبيدة معمر بن المثنى ومنزلته بين أهل العلم واللغة والأدب معروفة روى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده عن أبي عبيدة أنه قال كان أبو نواس للمحدثين مثل امرئ القيس للمتقدمين وقال ابن منظور قال أبو عبيدة: أبو نواس في المحدثين مثل امرئ القيس في المتقدمين فتح لهم باب هذه الفطن ودلهم على هذه المعاني وأرشدهم إلى طريق الأدب والتصرف في فنونه. قال وكان أبو عبيدة يقول ذهبت اليمن بجيد الشعر في قديمه وحديثه امرؤ القيس في الأوائل وأبو نواس في المحدثين وكان يقول شعراء اليمن ثلاثة امرؤ القيس وحسان بن ثابت وأبو نواس انتهى فقرنه بامرئ القيس المقدم على جميع الشعراء وقدمه على جميع المحدثين. وروى جامع ديوانه انه سئل أبو عبيدة عن أشعر من أدرك فقال بشار وأبو نواس. وسئل فقيل له قد أكثر الناس في أبي نواس فقال والله لولا تهتكه لفضح جميع الشعراء انتهى وقال ابن منظور كان أبو عبيدة يقول يعجبني من شعر أبي نواس قوله:
بنينا على كسرى سماء مدامة * مكللة حافاتها بنجوم فلو رد في كسرى بن ساسان روحه * أذن لاصطفاني دون كل نديم وما ظنك بمن يحسده بشار على قصيدة من شعر وهل يكون الحسد الا على شئ لا يكون للحاسد مثله قال ابن منظور حدث يحيى بن الجون راوية بشار قال جاء أبو نواس إلى بشار فأنشده قصيدته اللامية التي يصف فيها النخل فاستحسنها فلما خرج قال بشار لقد حسدت هذا الغلام على هذا انتهى. وقرنه أبو الحسن الطوسي بامرئ القيس وحسان قال جامع ديوانه قال أبو الحسن الطوسي: شعراء اليمن ثلاثة امرؤ القيس وحسان وأبو نواس. وحكى ابن خلكان عن إسماعيل بن نوبخت أنه قال هو في الطبقة الأولى من المولدين وقال جامع ديوانه: ما زال العلماء والاشراف يروون شعر أبي نواس ويتفكهون به ويفضلونه على أشعار القدماء وبذلك جاءت الروايات عنهم وكثرت انتهى وممن شهد بتقديمه ابن خالويه النحوي قال ابن منظور في اخبار أبي نواس وقد ذكر عنه ابن خالويه من تقريظه ما لم يقله أحد في حق أحد حتى أنه قال في شرحه لأرجوزته التي أولها: وبلدة فيها زور لولا ما غلب عليه من الهزل لاستشهد بكلامه في كتاب الله تعالى انتهى وشهد له سفيان بن عيينة وهو من الفقهاء والمحدثين بأنه أشعر الناس.
روى الخطيب بسنده عن يعقوب بن داود قال كنا عند سفيان بن عيينة فجاءه ابن مناذر فحدث وانشد فقال له سفيان يا أبا عبد الله ظريفكم هذا أشعر الناس قال كأنك عنيت أبا نواس قال نعم قال يا أبا محمد فيم استشعرته قال في شعره في هذه القصيدة:
يا قمرا أبصرت في مأتم * يندب شجوا بين أتراب والابيات الآتية قال ابن منظور كان سفيان بن عيينة يقول لقد أحسن بصريكم هذا أبو نواس حيث يقول: يا قمرا ابرزه ماتم البيت والذي بعده ويتعجب من قوله: ويلطم الورد بعناب قال وحدث الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع قال انشد سفيان بن عيينة قول أبي نواس:
يبكي فيذري الطل من نرجس * ويلطم الورد بعناب فتعجبت منه ثم قال بعد ان اطرق ساعة آمنت بالذي خلقه انتهى. قال الثعالبي في خاص الخاص وإذا أعجب به سفيان مع زهده وورعه فما الظن بغيره وروى الخطيب بسنده عن محمد بن مسعر قال كنا عند سفيان بن عيينة فتذاكروا شعر أبي نواس فقال ابن عيينة أنشدوني شعره فأنشدوه:
ما هوى الا له سبب * يبتدي منه وينشعب فتنت قلبي محببة * وجهها بالحسن منتقب تركت والحسن تأخذه * تنتقي منه وتنتخب فاكتست منه طرائفه * واستزادت بعض ما تهب فقال ابن عيينة آمنت بالذي خلقها وشهد له كلثوم بن عمرو العتابي وهو من شاع ذكره بين الشعراء والعلماء بأنه أشعر الناس وانه لو أدرك الجاهلية ما فضل عليه أحد وود ان بيتين له بجميع شعره. روى ابن