ولكن الذي ينبغي ان يق:
ان دلالة الألفاظ وان لم تكن بالطبع، الا انه لم تكن أيضا بالتعهد من شخص خاص على جعل اللفظ قالبا للمعنى، إذ من المقطوع انه لم يكن هناك تعهد من شخص لذلك ولم ينعقد مجلس لوضع الألفاظ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الألفاظ والمعاني على وجه لا يمكن إحاطة البشر بها؟ بل لو ادعى استحالة ذلك لم تكن بكل البعيد بداهة عدم تناهى الألفاظ بمعانيها، مع أنه لو سلم امكان ذلك، فتبليغ ذلك التعهد وايصاله إلى عامة البشر دفعة محال عادة.
ودعوى: ان التبليغ والايصال يكون تدريجا، مما لا ينفع، لان الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ يكون ضروريا للبشر، على وجه يتوقف عليه حفظ نظامهم، فيسئل عن كيفية تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهد إليهم، بل يسئل عن الخلق الأول كيف كانوا يبرزون مقاصدهم بالألفاظ، مع أنه لم يكن بعد وضع وتعهد من أحد.
وبالجملة: دعوى ان الوضع عبارة عن التعهد واحداث العلقة بين اللفظ والمعنى من شخص خاص مثل يعرب بن قحطان، كما قيل، مما يقطع بخلافها.
فلا بد من انتهاء الوضع إليه تعالى، الذي هو على كل شئ قدير، وبه محيط، ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه للأحكام على متعلقاتها وضعا تشريعيا، و لا كوضعه الكائنات وضعا تكوينيا، إذ ذلك أيضا مما يقطع بخلافه. بل المراد من كونه تعالى هو الواضع ان حكمته البالغة لما اقتضت تكلم البشر بابراز مقاصدهم بالألفاظ، فلا بد من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شانه بوجه، اما بوحي منه إلى نبي من أنبيائه، أو بالهام منه إلى البشر، أو بابداع ذلك في طباعهم، بحيث صاروا يتكلمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسب فطرتهم، حسب ما أودعه الله في طباعهم، ومن المعلوم ان ايداع لفظ خاص لتأدية معنى مخصوص لم يكن باقتراح صرف وبلا موجب، بل لابد من أن يكون هناك جهة اقتضت تأدية المعنى بلفظه المخصوص، على وجه يخرج عن الترجيح بلا مرجح. ولا يلزم ان تكون تلك الجهة راجعة إلى ذات اللفظ، حتى تكون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية، كما ينسب