والاستخبار للأمور الغائبة عن الأبصار بالعبارة والبيان فشهادة كل عالم غيب في الآخرة وعيانه علم وخبر في غيره.
ولما كانت نفوس أكثر الناس ما دامت في هذا العالم اشتغالها بالحواس أكثر واهتمامها بتربية البدن وأعضائه التي هي محال الحواس أشد من اهتمامها بتقوية القوة العاقلة والقوة المصورة فهي قليلة التوجه والالتفات بتحصيل مآرب القوة العاقلة والسعادة الحقيقية اليقينية كما فعله المقربون والكاملون في العلوم والمعارف من عكوفهم على الرياضات العلمية ضعيفة الاشتغال والاهتمام بتحصيل مآرب القوة العملية والخيالية والسعادات الوهمية الأخروية كما فعله أصحاب اليمين من المتوسطين في المعرفة من اشتغالهم بكثرة العبادات العملية مشعوفة بنية صالحة على قدر ما يمكنهم ويتيسر لهم من الإخلاص في العمل وتصفية النية عن الأغراض الدنياوية فإذا كان الغالب على الإنسان في هذا العالم النشأة الحسية لا جرم كلما يراه من هذا العالم المحسوس يكون واثقا بوجوده ونائلا له بحواسه لكونه من متاع هذه الحياة الدنيا.
وأما ما يراه في النوم أو يتخيل له بقوته الخيالية التي هي باصرته الباطنة التي تبصر بها ويشاهد الصور الغيبية ويراها في عالم متوسط بين العالمين فلا يثق بوجوده ولا يعتمد عليه لكونه معرضا عنه إلى هذا العالم مع أن ذلك أصدق وجودا في نفسه وعند المدرك إذا قوي سلطان القوة الباطنة واشتد مفارقته لعالم الغيب والله تعالى سمى هذا العالم الحسي بعالم الزور وعالم الغرور وصف الصور الموجودة فيه لهوا ولعبا ومتاع الغرور في عدة مواضع من كتابه الذي هو تنزيل من رب غفور.
والصور العقلية والمثل النورية الأفلاطونية الحاصلة في العالم العقل الذي هو جنة الكاملين في العقل هي أبعد من الحواس وأخفى من مشاهدة الناس وأضعف آثارا