غطاءك فبصرك اليوم حديد فجحيم الآخرة وإن كانت ألطف من هذه الدنيا إلا أن عذاب الأشقياء وآلامها على وجهها إنما يتحقق فيها لا في هذه الدار ولطافتها يوجب ذلك لكون الإدراك الذي هو ملاك التعذب فيها أصدق وأصفى.
وقوله تعالى: و إن جهنم لمحيطة بالكافرين إشارة إلى أن باعث الألم والعذاب موجود بالفعل للكفار وهم لا يدركونه لسكر طبيعتهم وتخدر مداركهم عن إدراكه.
ومن تأمل في الأحوال التي قد يراها أو يتوهمها الإنسان عند النوم أو غيره بلا جهة ظاهرة محسوسة لتيقن أن عذاب الآخرة وآلامها أشد وأبقى من عذاب الدنيا ومحنتها لأنها أشد استقرارا وأغرز في النفس من هذه الحسيات.
ومنها أن التعذب بالجهل المركب وغيره من الأحوال التي وعدها الشارع إن كان يلحق الجواهر الروحاني مجردا عن علائق الأجسام فكيف يحصل من مثله هذا التصور المحدود وليست معه قوة التخيل إذ الجهل المركب لا بد فيه من تصورات وتصديقات خلاف ما ينبغي منشؤها المتخيلة ومعلوم أن الفائض من المبادي العالية ما لم يكن فينا سوء استعداد جرمي لا يكون في الاعتقاديات إلا ما طابق الواقع فإن جهات الشر والآفة والكذب والجهل الذي هو ضرب من الصور العلمية وغيرها راجعة إلى هيئات مادية فموضوع التعذيب بالآلام والشدائد الأخروية إن كان هو الجوهر المفارق لعلاقة الأجرام فلا تعذيب له بالجهل المركب وغيره لعدم التخيل. غاية ما في الباب أن يبقى فيه أخلاق وملكات فإذا لم يبق مدد إدراكي زالت بالكلية ولا شوق إلى ما لا يتصور له بوجه ولا مخصص ولا قوة شوقية فلا تألم بالشوق أيضا إلى مشتهياتها ولذاتها الدنياوية وقد ارتفعت المشوشات الحسية عنه فكان حاله حينئذ حال من سكنت قواه فنال الغبطة العظمى من الرحمة الإلهية في عالم القدس والرحمة وإن كان موضوع التخيل هو الدماغ الإنساني فهو يفسد حالة الموت