ما خلق الله من العالم فإنما خلقه الله على كماله في نفسه فذلك الكمال وجهه قال تعالى أعطى كل شئ خلقه فقد أكمله ثم هدى فأعطى الهدى أيضا الذي هو البيان هنا خلقه فأبان الأمر بعبيده على أكمل وجوهه عقلا وشرعا ما أبهم ولا رمز ولا لغز إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لتبين للناس ما نزل إليهم ولولا البيان ما فصل بين المتشابه والمحكم ليعلم أن المتشابه لا يعلمه إلا الله والمحكم يتعلق به علمنا فلو لم ينزل المتشابه لنعلم أنه متشابه لكوننا نرى فيه وجها ويشبه أن يكون وصفا للمخلوق ويشبه أن يكون وصفا للخالق فلا يعلم معنى ذلك المتشابه إلا الله فلو لم ينزل المتشابه لم يعلم أن ثم في علم الله ما يكون متشابها وهذا غاية البيان حيث أبان لنا أن ثم ما يعلم وثم ما لا يعلمه إلا الله وقد يمكن أن يعلمه الله من يشاء من خلقه بأي وجه شاء أن يعلمه ومما يتضمن هذا المنزل العلم بالأقسام الإلهية التي وردت في الشرائع المتقدمة والمتأخرة لما أقسم وإذا أقسم بمن أقسم هل بنفسه أو بمخلوقاته أو بهذا وقتا وبهذا وقتا آخر مثل قوله تالله لقد أرسلنا فأقسم بالله وكقوله فوربك فورب السماء والأرض وكقوله والذاريات والمرسلات والصافات والنجم والشمس وغير ذلك من المخلوقين الذين أقامهم في الظاهر مقام أسمائه فإن كان أضمر فما أضمر من الأسماء وعلى كل حال فلها شرف عظيم بإضافتها إليه سواء أظهر الاسم أو لم يظهر والقسم العام فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون فدخل في هذا القسم من الموجودات جميع الأشياء ودخل فيه العدم والمعدومات وهو قوله وما لا تبصرون وما تبصرونه في الحال والمستقبل والمستقبل معدوم فللأشياء نسبة إلى الشرف والتعظيم وكذلك العدم فأما شرف العدم المطلق فإنه يدل على الوجود المطلق فعظم من حيث الدلالة وهو مما يجري على ألسنة الناس وقد نظم ذلك فقيل وبضدها تتميز الأشياء فالعدم ميز الوجود والوجود ميز العدم وأما شرف العدم المقيد فإنه على صفة تقبل الوجود والوجود في نفسه شريف ولهذا هو من أوصاف الحق فقد شرف على العدم المطلق بوجه قبوله للوجود فله دلالتان على الحق دلالة في حال عدمه ودلالة في حال وجوده وشرف العدم المطلق على المقيد بوجه وهو أنه من تعظيمه لله وقوة دلالته إنه ما قبل الوجود وبقي على أصله في عينه غيرة على الجناب الإلهي أن يشركه في صفة الوجود فينطلق عليه من الاسم ما ينطلق على الله ولما كان نفس الأمر على هذا شرع الحق للموجودات التسبيح وهو التنزيه وهو أن يوصف بأنه لا يتعلق به صفات المحدثين والتنزيه وصف عدمي فشرف سبحانه لعدم المطلق بأن وصف به نفسه فقال سبحان ربك رب العزة عما يصفون تشريفا للعدم لهذا القصد المحقق منه في تعظيم الله فإنه أعرف بما يستحقه الله من المعدوم المقيد فإنه له صفة الأزل في عدمه كما للحق صفة الأزل في وجوده وهو وصف الحق بنفي الأولية وهي وصف العدم بنفي الوجود عنه لذاته فلم يعرف الله مما سوى الله أعظم معرفة من العدم المطلق ولما كان للعدم هذا الشرف وكان الدعوى والمشاركة للموجودات لهذا قيل لنا وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا أي ولم تك موجودا فكن معي في حال وجودك من عدم الاعتراض في الحكم والتسليم لمجاري الأقدار كما كنت في حال عدمك فجعل شرف الإنسان رجوعه في وجوده إلى حال عدمه فلو لا شرف العدم بما ذكرناه ما نبه الحق الموجود المخلوق على الرجوع إلى تلك الحالة في الحكم لا في العين ولا يقدر على هذا الوصف من الرجوع إلى العدم بالحكم مع الوجود العيني إلا من عرف من أين جاء وما يراد منه وما خلق له فقد تبين لك من شرف العدم المطلق ما فيه كفاية وهذه مسألة أغفلها الناس ولم يعقلوها عن الله حين ذكرها ولما تبين أن الشرف للموجودات والمعدومات إنما كان من حيث الدلالة وجب تعظيمها فقال تعالى ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب والشعائر هي الإعلام فهي الدلالات فمن عظمها فهو تقي في جميع تقلباته فإن القلوب من التقليب وما قال سبحانه إن ذلك من تقوى النفوس ولا من تقوى الأرواح ولكن قال من تقوى القلوب لأن الإنسان يتقلب في الحالات مع الأنفاس وهو إيجاد المعدومات مع الأنفاس ومن يتق الله في كل تقلب يتقلب فيه فهو غاية ما طلب الله من الإنسان ولا يناله إلا الأقوياء الكمل من الخلق لأن الشعور بهذا التقلب عزيز ولهذا قال شعائر الله أي هي تشعر بما تدل عليه وما تكون شعائر إلا في حق من يشعر بها ومن لا يشعر بها وهم أكثر الخلق فلا يعظمها فإذا لا يعظمها إلا من قصد الله في جميع توجهاته وتصرفاته كلها ولهذا ما ذكرها الله إلا في الحج الذي هو تكرار القصد ولما كان القصد لا يخلو عنه
(٦٧٢)