علم الآخرة وما يتعلق بها من حين وقوف الناس على الجسر دون الظلمة إلى أن يدخلوا منازلهم من الشقاء والسعادة فهذا جميع ما يتضمنه هذا المنزل من العلوم قد نبهتك عليها لترتفع الهمة إلى طلبها فلنذكر منها مسألة أو أكثر على قدر ما يتسع الكلام مع الاختصار دون الإطالة والإكثار فأقول والله يقول الحق وهو يهدي السبيل اعلم أن الله لما خلق الأرواح الملكية المهيمة وهم الذين لا علم لهم بغير الله لا يعلمون أن الله خلق شيئا سواهم وهم الكروبيون المقربون المعتكفون المفردون المأخوذون عن أنفسهم بما أشهدهم الحق من جلاله اختص منهم المسمى بالعقل الأول والأفراد منا على مقامهم فجلال الله في قلوب الأفراد على مثل ذلك فلا يشهدون سوى الحق وهم خارجون عن حكم القطب الذي هو الإمام وهو واحد منهم ولكنه يكون مادته من العقل الأول الذي هو أول موجود من عالم التدوين والتسطير وهو الموجود الإبداعي ثم بعد ذلك من غير بعدية زمان انبعث عن هذا العقل موجود انبعاثي وهو النفس وهو اللوح المحفوظ المكتوب فيه كل كائن في هذه الدار إلى يوم القيامة وذلك علم الله في خلقه وهو دون القلم الذي هو العقل في النورية والمرتبة الضيائية فهو كالزمردة الخضراء لانبعاث الجوهر الهبائي الذي في قوة هذه النفس فانبعث عن النفس الجوهر الهبائي وهو جوهر مظلم لا نور فيه وجعل الله مرتبة الطبيعة بين النفس والهباء مرتبة معقولة لا موجودة ثم بما أعطى الله من وضع الأسباب والحكم ورتب في العالم من وجود الأنوار والظلم لما يقتضيه الظاهر والباطن كما جعل الابتداء في الأشياء والانتهاء في مقاديرها بأجل معلوم وذلك إلى غير نهاية فما ثم إلا ابتداءات وانتهاءات دائمة من اسميه الأول والآخر فعن تينك الحقيقتين كان الابتداء والانتهاء دائما فالكون جديد دائما فالبقاء السرمدي في التكوين فأعطى لهذه النفس لما ذكرناه قوة عملية عن تلك القوة أوجد الله سبحانه بضرب من التجلي الجسم الكل صورة في الجوهر الهبائي وما من موجود خلقه الله عند سبب إلا بتجل إلهي خاص لذلك الموجود لا يعرفه السبب فيتكون هذا الموجود عن ذلك التجلي الإلهي والتوجه الرباني عند توجه السبب لا عن السبب ولولا ذلك لم يكن ذلك الموجود وهو قوله سبحانه وتعالى فينفخ فيه فلم يكن للسبب غير النفخ فيكون طائرا بإذن الله فالطائر إنما كان لتوجه أمر الله عليه بالكون وهو قوله تعالى كن بالأمر الذي يليق بجلاله فلما أوجد هذا الجسم الأول لزمه الشكل إذ كانت الأشكال من لوازم الأجسام فأول شكل ظهر في الجسم الشكل المستدير وهو أفضل الأشكال وهو للاشكال بمنزلة الألف للحروف يعم جميع الأشكال كما إن حرف الألف يعم جميع الحروف بمروره هواء من الصدر على مخارجه إلى أن يجوز الشفتين فهو يظهر ذوات الحروف في المخارج فإذا وقف في الصدر ظهر حرف الهاء والهمزة في أعيانهما عن حرف الألف فإذا انتقل من الصدر إلى الحلق ووقف في مراتب معينة في الحلق أظهر في ذلك الوقوف وجود الحاء المهملة ثم العين المهملة ثم الخاء المعجمة ثم الغين المعجمة ثم القاف المعقودة ثم الكاف وأما القاف التي هي غير معقودة فهي حرف بين حرفين بين الكاف والقاف المعقودة ما هي كاف خالصة ولا قاف خالصة ولهذا ينكرها أهل اللسان فأما شيوخنا في القراءة فإنهم لا يعقدون القاف ويزعمون أنهم هكذا أخذوها عن شيوخهم وشيوخهم عن شيوخهم في الأداء إلى أن وصلوا إلى العرب أهل ذلك اللسان وهم الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك أداء وأما العرب الذين لقيناهم ممن بقي على لسانه ما تغير كبني فهم فإني رأيتهم يعقدون القاف وهكذا جميع العرب فما أدري من أين دخل على أصحابنا ببلاد المغرب ترك عقدها في القرآن وهكذا حديث سائر الحروف إلى آخرها وهو الواو وليس وراء الواو مرتبة لحرف أصلا وليس للاشكال في الأجسام حد ينتهي إليه يوقف عنده لأنه تابع للعدد والعدد في نفسه غير متناه فكذلك الأشكال فأول شكل ظهر بعد الاستدارة المثلث ومن المثلث المتساوي الأضلاع والزوايا تمشي الأشكال في المجسمات إلى غير نهاية وأفضل الأشكال وأحكمها المسدس وكلما اتسع الجسم وعظم قبل الكثير من الأشكال ثم أمسك الله الصورة الجسمية في الهباء بما أعطته الطبيعة من مرتبتها التي جعلناها بين النفس والهباء ولو لم يكن هنالك مرتبتها لما ظهر الجسم في هذا الجوهر ولا كان له فيه ثبوت فكانت الطبيعة للنفس كالآلة للصانع التي يفتح بها الصور الصناعية في المواد فظهر الجسم الكل في هذا الجوهر عن النفس بآلة الحرارة وظهرت الحياة فيه بمصاحبة
(٦٧٥)