الله سبحانه بهذا الجهل أصحاب الهموم فهو رحمة في حقهم فإنهم لو شاهدوا تحديدا لهم في كل زمان فرد لم يزل عذابه كبيرا عندهم وآلامه متضاعفة فلما حيل بينهم وبين هذه المشاهدة وتخيلوا أن الهم الأول هو الذي استصحبهم لم يقم عندهم مقام فجأته في الفعل وهان عليهم حمله للاستصحاب الذي تخيلوه رحمة من الله بهم وتخفيفا عنهم إلا في جهنم فإن أهلها مع الأنفاس يشاهدون تجديد العذاب وكلامنا إنما هو في هذه الدار الدنيا محل الحجاب إلا للعارفين فإن لهم مقام الآخرة في الدنيا فلهم الكشف والمشاهدة وهما أمران يعطيهما عين اليقين وهو أتم مدارك العلم فالعلم الحاصل عن العين له أعظم اللذات في المعلومات المستلذة فهم في الآخرة حكما وفي الدنيا حسا وهم في الآخرة مكانة وفي الدنيا مكانا ثم يتصل لهم ذلك بالآخرة من القبر إلى الجنة وما بينهما من منازل الآخرة وهو قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا وهي ما هم فيه من مشاهدة ما ذكرناه وفي الآخرة من القبر إلى الجنة فهو نعيم متصل فهذا نعيم العارفين وليس لغيرهم هذا النعيم الدائم ثم إن الحق سبحانه وتعالى في هذا المنزل أمر عبده المعتنى به أن يكون مع خلقه كما كان الحق معه في مثل هذا المشهد وكل ما يؤدي إلى سعادتهم وذلك بالنصيحة والتبليغ ليس بيده من الأمر غير هذا فللعارف إيضاح هذا الطريق الموصل إلى هذا المقام والإفصاح عنه وليس بيده إعطاء هذا المقام فإن ذلك خاص بالله تعالى قال تعالى يا أيها الرسول بلغ فلما بلغ قيل له ما عليك إلا البلاغ ليس عليك هداهم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وما أحسن قوله في الحقائق وهو أعلم بالمهتدين فإن العلم أنما يتعلق بالمعلوم على ما هو المعلوم عليه وقال لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين فوظيفة الرسل والورثة من العلماء إنما هي التبليغ بالبيان والإفصاح لا غير ذلك وجزاهم جزاء من أعطى ووهب والدال على الخير كفاعل الخير فإن الدلالة على الخير من الخير فيتضمن هذا المنزل من علم الاستناد والمستند إليه أعظم الاستنادات وهو الاستناد الإلهي وهو استناد الأسماء الإلهية إلى محال وجود آثارها لتعيين مراتبها واستناد المحال إلى الأسماء الإلهية لظهور أعيانها فهذا أعلى الاستنادات وأعلى المستندات إليها وقد رمينا بك على الطريق فأدرج عليه نازلا وصاعدا ومن هنا يعرف ما تخبط فيه الناس من تفضيل الفقر على الغني والغني على الفقر والخوض في هذه المسألة من الفضول الذي في العالم والجهل القائم به فإن الحالات تختلف والمنازل تختلف وكل حالة كمالها في وجود عينها فالله يقول أعطى كل شئ خلقه فما تركت هذه الآية لأحد طريقا إلى الخوض في الفضول لمن فهمها وتحقق بها غير إن الفضول أيضا من خلق الله فقد أعطى الله الفضول خلقه ثم هدى أي بين أن من قام به الفضول فهو المعبر عنه بالمشتغل بما لا يعنيه وجهله بالأمر الذي يعنيه والفقر في عينه كامل الخلق لا قدم له في الغني والغني في حاله كامل الخلق لا قدم له في الفقر ولو تداخلت الأمور لكان الفقر عين الغني والغني عين الفقر إذ كان كل واحد منهما من مقومات صاحبه والضد لا يكون عين الضد وإن اجتمعا في أمر ما فلا يجتمع الغني والفقر أبدا فليس للفقر منزلة عند الله في وجوده وليس للغنى منزلة عند العبد في وجوده فكما لا يقال الله أفضل من الخلق أو الخلق كذلك لا يقال الغني أفضل من الفقر أو الفقر أفضل من الغني فالفقر صفة الخلق والغني صفة الحق والمفاضلة لا تصح إلا فيمن يجمعهما جنس واحد ولا جامع بين الحق والخلق فلا مفاضلة بين الغني والفقر قال تعالى في الغني إن الله غني عن العالمين وقال في الفقر يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد فمن قال بعد علمه بهذا الغني أفضل من الفقر أم الفقر أفضل كمن قال من أفضل الله أم الخلق وكفى بهذا جهلا من قائله وأما الذي بأيدي الناس الذي يسمونه غني فكيف يكون غني وأنت فقير إليه غير مستغن في غناك عن غناك فغناك عين فقرك وهذا على الحقيقة لا يسمى غنى فكيف تقع المفاضلة ما بين ما له وجود حقيقي وهو الفقر وبين ما ليس له وجود حقيقي وهو غناك وإذا سمي الإنسان غنيا فهو عبارة عن وجود السبب المؤثر عنده فيما له فيه غرض في الوقت فيكون بذلك السبب غنيا فيما يفتقر إليه لوجوده به فهو الفقير الذاتي في غناه العرضي وإذا لم يكن عنده وجود السبب المؤثر فيما افتقر إليه سمي فقيرا من غير غنى فالفقر له في الحالين معا لأن ذاته له في الحالين معا والأمر إذا كان على هذا فطلب المفاضلة جهل بين الوصف الحقيقي والإضافي العرضي ومما يتضمنه هذا المنزل ما يلزم العالم والمتعلم والسائل والمسؤول فلنبين من ذلك طرفا لمسيس الحاجة إليه فإنه
(٦٥٤)