بصيرا خرج عن صدره فرأى فالأسباب صدور الموجودات والموجودات كالقلوب فما دام الموجود ناظرا إلى السبب الذي صدر عنه كان أعمى عن شهود الله الذي أوجده فإذا أراد الله أن يجعله بصيرا ترك النظر إلى السبب الذي أوجده الله عنده ونظر من الوجه الخاص الذي من ربه إليه في إيجاده جعله الله بصيرا فالأسباب كلها ظلمات على عيون المسببات وفيها هلك من هلك من الناس فالعارفون يثبتونها ولا يشهدونها ويعطونها حقها ولا يعبدونها وما سوى العارفين يعاملونها بالعكس يعبدونها ولا يعطون حقها بل يغصبونها فيما تستحقه من العبودية التي هي حقها ويشهدونها ولا يثبتونها فما تسمع أحدا من الناس إلا وهو يقول ما ثم إلا الله وينفي الأسباب فإذا أخذته بقوله أو نزلت به نازلة شاهد السبب وعمي عمن أثبته وكفر به وآمن بما نفاه فإذا اتفق لبعض الناس أن تلك النازلة ما ارتفعت بهذا السبب الذي استند إليه وانقطعت به الأسباب حينئذ يكفر بها ويرجع إلى الله خالق الأسباب فلم يدر بما ذا كفر ولا بما به آمن ولم يدر ما معنى السبب ولا غيره إذ لو علم إن السبب لا يصح إلا أن يكون عنه المسبب لعلم أن السبب الذي استند إليه في رفعه لهذه النازلة لم يكن سببها بوجه من الوجوه إذ لو كان سببها لرفعها وإنما كان ذلك السبب في منعه رفع النازلة سببا في رجوعه إلى الله في رفعها فلم يزل في المعنى تحت تأثير الأسباب فإن الأسباب محال رفعها وكيف يرفع العبد ما أثبته الله ليس له ذلك ولكن الجهل عم الناس فأعماهم وحيرهم وما هداهم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بالروح الموحي من أمر الله فيهدي به من يشاء من عباده فقد أثبت الهداية بالروح وهذا وضع السبب في العالم فالوقوف عند الأسباب لا ينافي الاعتماد على الله ولهذا جعل سبحانه الأسباب مسببات لأسباب غيرها من الأدنى حتى ينتهي فيها إلى الله سبحانه فهو السبب الأول لا عن سبب كان به نعم سبب الكون المرتبة لا الذات وسبب المرتبة الكون فسبب الكون في الإيجاد المرتبة وسبب المرتبة في المعرفة الكون فافهم فلما أضاء النهار للحركة وقعت الولادة للأشياء بها فطهرت الأعيان في عالم الحس غالبا وهبت الرياح في البحار فتلاطمت الأمواج وجرت السفن ورمت البحار ما فيها لتلاطم الأمواج ولما أظلم الليل للسكون سكنت الرياح وسكنت الأمواج وأمسك البحر ما فيه غالبا وظهرت الولادة في البرزخ فكانت الأحلام ورؤيا المبشرات والمفزعات كالصورة القبيحة والجميلة في صور المولدات في الحس من الأفعال والنشآت وأغلب وقوع هذا في صدر الليل وفي صدر النهار لأن الرياح لا نهب إلا بعد طلوع الشمس حينئذ تكون الرياح كما إن رياح النصر لا تهب إلا في صدر العشي وهو بعد الزوال ولهذا يستحب فيه القتال ولما كان الليل محلا للسكون والمسامرة ولا يبيت شخص إلا مع من يحبه ويسكن إليه غالبا ولا يسامر إلا من يأنس به لذلك كان الليل أصل المودة والرحمة حتى إن الذين تعذبهم الملوك لا تعذبهم إلا بالنهار غالبا وأما الليل فلا لأن المعذب يتعذب بالليل إذا عذب للسهر وعدم النوم والذي يلحقه فالليل زمان السكون والراحة والمعذب لا يريد أن يعذب نفسه فيترك العذاب إلى النهار الذي هو محل الحركة فأصل الود والمحبة موجود من الليل وضده موجود بالنهار ثم إن الغيبة أعني غيبة المحبوب عن المحب غيبة تعليم وتأديب لما تعطيه المحبة فإن المحب إذا كان صادقا في دعواه وابتلاه الله بغيبة محبوبه ظهرت منه الحركة الشوقية إلى مشاهدته فيصدق دعواه في محبته فيعظم منزلته وتتضاعف جائزته من التنعيم بمحبوبه فإن اللذة التي يجدها عند اللقاء أعظم من لذة الاستصحاب كحلاوة ورود الأمن على الخائف لا يقوي قوتها حلاوة الأمن المستصحب فهو يزيد به تضاعف النعيم ولهذا أهل الجنة في نعيم متجدد مع الأنفاس في جميع حواسهم ومعانيهم وتجليهم فهم في طرب دائمون فلهذا نعيمهم أعظم النعيم لتوقع الفراق وتوهم عدم المصاحبة ولجهل الإنسان بهذه المرتبة يطلب الاستصحاب والعالم يطلب استصحاب تجديد النعيم والفرق بين النعيمين حتى يقع الالتذاذ بنعيم جديد كما هو في نفس الأمر وإن لم يعرفه كل إنسان ولا شاهدته كل عين ولا عقل فهو متجدد مع الآنات في نفس الأمر وللجهل القائم بهذا الشخص لعدم مشاهدته التجديد في النعيم يقع الملل فلو ارتفع عنه هذا الجهل ارتفع الملل من العالم فالملل أقوى دليل على جهل الإنسان بالله في حفظ وجوده عليه وتجديد آلائه مع الأنفاس فالله يحققنا بالكشف الأتم والمشهد الأعم فما أشرف عين اليقين وما أسعد صاحب مشاهدة الأمور على ما هي عليه ولكن راعى
(٦٥٣)