العقل لكونه وراء طوره وهو النسب الإلهية لم يقبله ميزانه ورمى به وكفر به وتخيل أنه ما ثم حق إلا ما دخل في ميزانه والمجتهد الفقيه وزن حكم الشرع بميزان نظره كالشافعي المذهب مثلا أراد أن يزن بميزانه تحليل النبيذ الذي قبله ميزان أبي حنيفة فرمى به ميزان الشافعي فحرمه وقال أخطأ أبو حنيفة ولم يكن ينبغي للشافعي المذهب مثلا أن يقول مثل هذا دون تقييد وقد علم إن الشرع قد تعبد كل مجتهد بما أداه إليه اجتهاده وحرم عليه العدول عن دليله فما وفي الصنعة حقها وأخطأ الميزان العام الذي يشمل حكم الشريعة على الإطلاق وهو الذي استند إليه علماء الشريعة بلا خلاف في أصول الأدلة وفي فروع الأحكام فأما في الأصول فالمثبتون القياس دليلا أداهم إلى ذلك اجتهادهم المشروع لهم وقد علم المخالف لهم من الظاهرية أن كل مجتهد متعبد بما أعطاه اجتهاده ولكن يقول فيهم إنهم أخطئوا في إثباتهم القياس دليلا وليس للظاهرية تخطئة ما قرره الشرع حكما فيثبت القياس دليلا شرعا ويثبت نفي القياس أن يكون دليلا شرعا وأما في الفروع فكعلي رضي الله عنه الذي يرى نكاح الربيبة إذا لم تكن في الحجر وإن دخل بأمها لعدم وجود الشرطين معا وإنه بوجودهما تحرم الربيبة يعني بالمجموع والمخالف لا يرى ذلك فالميزان العام يمضي حكم كل واحد منهما ولكن العامل بالميزان العام قليل لعدم الإنصاف فقد بينا في هذا الفصل سبب الحرمان الذي حكم على الفقهاء العقلاء النظار فلم يلجوا باب هذا العلم الشريف الإحاطي الذي يسلم لكل طائفة ما هي عليه سواء قادهم ذلك إلى السعادة أو إلى الشقاء ولا يسلم له أحد طريقه سوى من ذاق ما ذاقوه وآمن به كما قال أبو يزيد إذا رأيتم من يؤمن بكلام أهل هذه الطريقة ويسلم لهم ما يتحققون به فقولوا له يدعو لكم فإنه مجاب الدعوة وكيف لا يكون مجاب الدعوة والمسلم في بحبوحة الحضرة ولكن لا يعرف أنه فيها لجهله بها فالله يجعلنا ممن جعل له نورا من النور الذي يهدي به من يشاء من عباده حتى يهدي به إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض من الموازين والصراطات إلا إلى الله تصير الأمور وترجع قال تعالى في معرض الامتنان منه على رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وهو قوله يلقي الروح من أمره ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان وهو عرو المحل عن كل ما يشغله عن قبول ما أوحي به إليه ولكن جعلناه نورا يعني هذا المنزل نهدي به من نشاء من عبادنا فجاء بمن وهي نكرة في الدلالة مختصة عنده ببعض عباده من نبي أو ولي وإنك لتهدي بذلك النور الذي هديتك به فإن كان هذا العبد نبيا فهو شرع وإن كان وليا فهو تأييد لشرع النبي وحكمه أمر مشروع مجهول عند بعض المؤمنين به إلى صراط مستقيم في حق النبي طريق السعادة والعلم وفي حق الولي طريق العلم لما جهل من الأمر المشروع فيما يتضمنه من الحكمة قال تعالى يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا لا يقال فيه قليل ثم قال وما يذكر إلا أولوا الألباب واللب نور في العقل كالدهن في اللوز والزيتون والتذكر لا يكون إلا عن علم منسي فتنبه لما حررناه في هذه الآيات تسعد إن شاء الله تعالى وبعد أن أبنت لك عن مرتبة هذا العلم من هذا المنزل فلنبين أصل هذا العلم ومادة بقائه وحجاب مادته وبما ذا يوصل إلى ذلك بتأييد الله وتوفيقه فاعلم إن أصل هذا العلم الإلهي هو المقام الذي ينتهي إليه العارفون وهو أن لا مقام كما وقعت به الإشارة بقوله تعالى يا أهل يثرب لا مقام لكم وهذا المقام لا يتقيد بصفة أصلا وقد نبه عليه أبو يزيد البسطامي رحمه الله لما قيل له كيف أصبحت فقال لا صباح لي ولا مساء إنما الصباح والمساء لمن تقيد بالصفة وأنا لا صفة لي فالصباح للشروق والمساء للغروب والشروق للظهور وعالم الملك والشهادة والغروب للستر وعالم الغيب والملكوت فالعارف في هذا المقام كالزيتونة المباركة التي لا هي شرقية ولا غربية فلا يحكم على هذا المقام وصف ولا يتقيد به وهو حظه من ليس كمثله شئ وسبحان ربك رب العزة عما يصفون فالمقام الذي بهذه المثابة هو أصل هذا العلم وبين هذا الأصل وهذا العلم مراتب فالأصل هو الثبات على التنزيه عن قبول الوصف والميل إلى حال دون حال ثم ينتج هذا الثبات صورة يتصف بها العارف لها ظاهر ولها باطن فالباطن منها لا يصل إليه إلا بعد المجاهدة البدنية والرياضة النفسية فإذا وصل إلى سر هذا الباطن وهو علم خاص هو لهذا العلم المطلوب كالدهن للسراج والعلم
(٦٤٦)