البصيرة التي نزل القرآن بها في قوله تعالى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وهو تتميم قوله تعالى بعث في الأميين رسولا منهم فهو النبي الأمي الذي يدعو على بصيرة مع أميته والأميون هم الذين يدعون معه إلى الله على بصيرة فهم التابعون له في الحكم إذ كان رأس الجماعة والمجتهد وصاحب الفكر لا يكون أبدا على بصيرة فيما يحكم به فأما المجتهد فقد يحكم اليوم في نازلة شرعية بحكم فإذا كان في غد لاح له أمر آخر أبان له خطأ ما حكم به بالأمس في النازلة فرجع عنه وحكم اليوم بما ظهر له ويمضي الشارع حكمه في الأول والآخر ويحرم عليه الخروج عما أعطاه الدليل في اجتهاده في ذلك الوقت فلو كان على بصيرة لما حكم بالخطأ في النظر الأول بخلاف حكم النبي فإن ذلك صحيح أعني الحكم الأول ثم رفع الله ذلك الحكم بنقيضه وسمي ذلك نسخا وأين النسخ من الخطاء فالنسخ يكون مع البصيرة والخطاء لا يكون مع البصيرة وكذلك صاحب العقل وهو واقع من جماعة من العقلاء إذا نظروا واستوفوا في نظرهم الدليل وعثروا على وجه الدليل أعطاهم ذلك العلم بالمدلول ثم تراهم في زمان آخر أو يقوم لهم خصم من طائفة أخرى كمعتزلي وأشعري أو برهمي أو فيلسوف بأمر آخر يناقض دليله الذي كان يقطع به ويقدح فيه فينظر فيه فيرى إن ذلك الأول كان خطأ وأنه ما استوفى أركان دليله وأنه أخل بالميزان في ذلك ولم يشعر وأين هذا من البصيرة ولما ذا لا يقع له هذا في ضرورات العقل فالبصيرة في الحكم لأهل هذا الشأن مثل الضروريات للعقول فمثل هذا العلم ينبغي للإنسان أن يفرح به حكي عن أبي حامد الغزالي المترجم عن أهل هذه الطريقة بعض ما كانوا يتحققون به قال لما أردت أن انخرط في سلكهم وآخذ مأخذهم وأغرف من البحر الذي اغترفوا منه خلوت بنفسي واعتزلت عن نظري وفكري وشغلت نفسي بالذكر فانقدح لي من العلم ما لم يكن عندي ففرحت بذلك وقلت إنه قد حصل لي ما حصل للقوم فتأملت فيه فإذا فيه قوة فقهية مما كنت عليه قبل ذلك فعلمت أنه بعد ما خلص لي فعدت إلى خلوتي واستعملت ما استعمله القوم فوجدت مثل الذي وجدت أولا وأوضح وأسنى فسررت فتأملت فإذا فيه قوة فقهية مما كنت عليه وما خلص لي عاودت ذلك مرارا والحال الحال فتميزت عن سائر النظار أصحاب الأفكار بهذا القدر ولم ألحق بدرجة القوم في ذلك وعلمت أن الكتابة على المحو ليست كالكتابة على غير المحو ألا ترى الأشجار منها ما يتقدم ثمره زهره وهو كمرتبة علماء النظر إذا دخلوا طريق الله كالفقيه والمتكلم ومنه ما لا يتقدم ثمره زهره وهو الأمي الذي لم يتقدم علمه اللدني علم ظاهر فكري فيأتيه ذلك بأسهل الوجوه وسبب ذلك أنه لما كان لا فاعل إلا الله وجاء هذا الفقيه والمتكلم إلى الحضرة الإلهية بميزانهما ليزنوا على الله وما عرفوا إن الله تعالى ما أعطاهم تلك الموازين إلا ليزنوا بها لله لا على الله فحرموا الأدب ومن حرم الأدب عوقب بالجهل بالعلم اللدني الفتحي فلم يكن على بصيرة من أمره فإن كان وافر العقل علم من أين أصيب فمنهم من دخل وترك ميزانه على الباب حتى إذا خرج أخذه ليزن به لله وهذا أحسن حالا ممن دخل به على الله ولكن قلبه متعلق بما تركه إذ كان في نفسه الرجوع إليه فحرم من الحق المطلوب بقدر ما تعلق به خاطره فيما تركه للالتفات الذي له إليه وأحسن من هذا حالا من كسر ميزانه فإن كان خشبا أحرقه وإن كان مما يذوب أذابه أو برده حتى يزول كونه ميزانا وإن بقي عين جوهره فلا يبالي وهذا عزيز جدا ما سمعنا أن أحدا فعله فإن فرضنا وليس بمحال إن الله قوى بعض عباده حتى فعل مثل هذا كما ذكر أبو حامد الغزالي عن نفسه أنه بقي أربعين يوما حائرا وهذا خطر ليس حال الأمي على هذا فإن الأمي يدخل إلى الله مؤمنا وهذه الحال التي ذكرها أبو حامد ليست حال القوم وإنما هي حالة من لم يكن على شريعة فأراد إن يعرف ما ثم فسأل فدل على طريق القوم فدخل ليعرف الحق بتعريف الله فهذا أيضا طاهر المحل وأبو حامد كان محله مشغولا بالحيرة فلم يقو قوة هذا في قبول ما يرد به الفتح الإلهي فإذا اتفق على التقدير أن يفتح على مثل هذا الشخص الذي هو بهذه المثابة أبصر فيما يفتح له به تلك الموازين التي أذهبها فيعجب من ذلك فلما خرج خرج بها فوزن بها لله لا عليه كما فعلته الأنبياء عليهم السلام فهو لا يرد شيئا ولا يضع شيئا في غير ميزانه وارتفع الغلط والشك وعرف معنى قوله ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فجعلها موازين كثيرة ليزن بكل ميزان ما وضع له ولما وزن المتكلم بميزان عقله ما هو خارج عن
(٦٤٥)