الصورة التي خلقوا عليها لأنها غير محجور عليها فلما رأت من يشبهها قد حجر عليه سألت فيه رفع الحجر عنه فقيل لها إلى ذلك ما له في الآخرة فقالت فلا بد له أن يكون له حكم في الحياة الدنيا ليكون لي بشرى بقبول الشفاعة فإنك القائل لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فإن هذه الصورة متنزهى وموضع نظري فإذا رأيت عليها التحجير أرى الانكسار فيها ولا نرى أثرا لعنايتي فيها مع كونها مخلوقة على صورتي ولا تحجير علي فشرع الله لها في الدنيا المباح فلا تنظر إليها الصورة الإلهية إلا في وقت تصرفها في المباح وهو أرفع أحوال النفس في الدنيا فإنه من الحياة الأخرى التي لا تحجير فيها فإذا انتقلت من المباح إلى مكروه أو مندوب أعرضت الصورة عن المكلف قليلا ونأت بجانبها مع بعض التفات إليها فإذا انتقلت إلى محظور أو فعل واجب أسدلت الحجاب وأعرضت بالكلية عن ذلك المكلف فلما رأى ذلك من كلفها وحجر عليها وهو الله تعالى أوجب على نفسه ما أوجبه مثل قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة وكان حقا علينا نصر المؤمنين فرفع الحجاب ونظرت الصورة إلى كل واحد في كل حال من أحوال الأحكام فانظر يا ولي ما ألطف الله وما أرأفه بعباده حيث شرك نفسه معهم في حكم الوجوب وما أسقط الوجوب عنهم بل أدخل نفسه معهم فيه إذ قد اتصفوا به ابتداء فلو أزاله عنهم لم يقم عندهم مقام إدخال نفسه معهم فيه أي ذقنا ما ذوقناكم هذا وغاية اللطف في الحكم والتنزل الإلهي كما نزل معهم في العلم المستفاد إذ كان علمهم مستفادا فقال ولنبلونكم حتى نعلم وهو العليم فانسهم وفيه حكم إيمان يعتض به من يسمع ممن لا يعرف الله قولهم إن الله لا يعلم الجزئيات وإن كانوا قصدوا بذلك التنزيه وهذه مسألة لا يمكن تحققها بالعقل ما لم يكن الكشف بكيفية تعلق العلم الإلهي بالمعلومات وأنه ليس في حق الحق ماض ولا آت وأن آنه لم يزل ولا يزال لا يتصف آنه بأنه لم يكن ثم كان ولا بانقضاء بعد ما كان وربما يعطي الله هذه القوة لمن شاء من عباده وقد ظهر منها نفحة على محمد صلى الله عليه وسلم علم بها علم الأولين والآخرين فعلم الماضي والمستقبل في الآن فلو لا حضور المعلومات له في حضرة الآن لما وصف بالعلم بها فهذا يعلم أن الله يعلم الجزئيات علما صحيحا غاب عنه من قصد التنزيه بنفيه عن جناب الحق ثم نرجع ونقول إن المجاهدة حمل النفس على المشاق البدنية المؤثرة في المزاج وهنا وضعفا كما إن الرياضة تهذيب الأخلاق النفسية بحملها على احتمال الأذى في العرض والخارج عن بدنه مما لا حركة فيه بدنية ثم إن هذه الحركات البدنية المحمودة شرعا منها حركات في سبيل الله مطلقا وهي أنواع سبيل كل بر مشروع فمنه ما فيه مشقة فيسمى مجاهدة ومنه ما لا مشقة فيه فيرتفع عنها حكم هذا الاسم وهذا الباب مخصوص بما فيه مشقة ولهذا سميناه باب المجاهدة فنظرنا إلى أعظم المشاق فلم نجد أعظم من إتلاف المهج في سبيل الله وهو الجهاد في سبيل الله الذي وصف الله قتلاه بأنهم أحياء يرزقون ونهى أن يقال فيهم أموات ونفى العلم عمن يلحقهم بالأموات للمشاركة في صورة مفارقة الإحساس وعدم وجود الأنفاس وهذا من أدل دليل على إبطال القياس لأن المعتقدين موت المجاهدين المقتولين في سبيل الله إنما اعتقدوه قياسا على المقتول في غير سبيل الله بالعلة الجامعة في كونهم رأوا كل واحد من المقتولين على صورة واحدة من عدم الأنفاس والحركات الحيوانية وعدم الامتناع مما يراد من الفعل بهم من قطع الأعضاء وتمزيق الجلود وأكل سباع الطير والسباع واستحالة أجسامهم إلى الدود والبلى فقاسوا فأخطأ والقياس ولا قياس أوضح من هذا أولا أدل في وجود العلة منه ومع هذا أكذبهم الله وقال لهم ما هو الأمر في المقتول في سبيلي كالمقتول في غير سبيلي فلا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين فقال لهم ذلك الحكم الذي حكمتم علي ليس بعلم وإذا لم يكن علما لم يكن صحيحا وإذا لم يصح لم يجز الحكم به مع علمنا بأخبار الله أن ذلك ليس بصحيح ثم قال ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون فنفى عنهم العلم الذي أعطاهم القياس فإذا كان حكم هذا القياس على وضوحه وعدم الريب فيه وتوفر أسبابه وظهور علله الجامعة بينه وبين غيره من القتلى وهو باطل بأخبار الله فما ظنك بقياس الفقهاء في النوازل وقياس العقلاء بحكم الشاهد على الغائب في معرفة الله هيهات صدق الله وكذب أهل القياس على الله والله لا أشبه من ليس كمثله شئ من مثله الأشياء فلما كان إتلاف المهج أعظم المشاق على النفوس لهذا سمي جهادا فإن النفوس نفسان نفس ترغب في الحياة الدنيا لألفتها بها فلا يريد المفارقة
(١٤٦)