ثم بعد هذا يريه الآيات التي أبصرها في العالم في نفسه فلو رآها أولا في نفسه ثم رآها في العالم ربما تخيل أن نفسه رأى في العالم فرفع الله عنه هذا الإشكال بأن قدم له رؤية الآيات في العالم كالذي وقع في الوجود فإنه أقدم من الإنسان وكيف لا يكون أقدم وهو أبوه فأبانت له رؤية تلك الآيات التي في الآفاق وفي نفسه أنه الحق لا غيره وتبين له ذلك فالآيات هي الدلالات له على أنه الحق الظاهر في مظاهر أعيان العالم فلا يطلب على أمر آخر صاحب هذه الخلوة فإنه ما ثم جملة واحدة ولهذا تمم تعالى في التعريف فقال أولم يكف بربك أنه على كل شئ من أعيان العالم شهيد على التجلي فيه والظهور وليس في قوة العالم أن يدفع عن نفسه هذا الظاهر فيه ولا أن لا يكون مظهرا وهو المعبر عنه بالإمكان فلو لم يكن حقيقة العالم الإمكان لما قبل النور وهو ظهور الحق فيه الذي تبين له بالآيات ثم تمم وقال إنه بكل شئ من العالم محيط والإحاطة بالشئ تستر ذلك الشئ فيكون الظاهر المحيط لا ذلك الشئ فإن الإحاطة به تمنع من ظهوره فصار ذلك الشئ وهو العالم في المحيط كالروح للجسم والمحيط كالجسم للروح الواحد شهادة وهو المحيط الظاهر والآخر غيب وهو المستور بهذه الإحاطة وهو عين العالم ولما كان الحكم للموصوف بالغيب في الظاهر الذي هو الشهادة وكانت أعيان شيئيات العالم على استعدادات في أنفسها حكمت على الظاهر فيها بما تعطيه حقائقها فظهرت صورها في المحيط وهو الحق فقيل عرش وكرسي وأفلاك وأملاك وعناصر ومولدات وأحوال تعرض وما ثم إلا الله فالحق من كونه محيطا كبيت الخلوة لصاحب الخلوة فيطلب صاحب الخلوة فلا يوجد فإن البيت يحجبه فلا يعرف منه إلا مكانه ومكانه يدل على مكانته فقد أعطيتك مرتبة الخلوة التي نريد في هذا الكتاب لا الخلوة المعهودة عند أصحاب الخلوات ودرجاتها ألف وسبع وستون درجة فظهر في الدرجات صورة الوترية وإذا لم يعمر الخلأ إلا العالم فهو في خلوة بنفسه هذا أصله ثم إنه لما انصبغ بالنور كان في خلوة بربه وبقي في تلك الخلوة إلى الأبد لا يتقيد بالزمان لا بأربعين يوما ولا بغير ذلك فالعارف إذا عرف ما ذكرناه عرف أنه في خلوة بربه لا بنفسه ومع ربه لا مع نفسه فيرى من حيث أثره في المحيط به بالصور التي ظهر بها المحيط نفسه بنفسه ومن حيث تعدد أعيانه رأى منه به وكانت كل عين مغايرة لصاحبتها ولذلك اختلفت صور العالم وإن كان واحدا كما اختلفت صورة الإنسان في نفسه وإن كان الإنسان واحدا فيده ما هي رجله ورأسه ما هو صدره وعينه ما هو أذنه ولا لسانه ولا فرجه وعقله ما هو فكره ولا خياله فهو متنوع متعدد العين بالصور المحسوسة والمعنوية ومع هذا يقال فيه إنه واحد ويصدق ويقال فيه كثير ويصدق فمن حيث أحديته نقول رأى نفسه بنفسه ومن حيث كثرته نقول رأى بعضه ببعضه فتكلم بلسانه وبطش بيده وسعى برجله واستنشق بأنفه وسمع بإذنه ونظر بعينه وتخيل بخياله وعقل بعقله فهذا كثير وما ثم إلا هو فمن حصل له هذا العلم كما قررناه كان صاحب خلوة ومن حرمه فليس بصاحب خلوة فقد تبين لك أن الحق بالعالم والعالم بالحق فهويته عين المجموع كما إن المجموع هو الإنسان بغيبه وشهادته ونطقه وحيوانيته فهو واحد في الكثرة وكثير في الأحدية فالخلوة من المقامات المستصحبة دنيا وآخرة إلى الأبد من حصلت له لا تزول فإنه لا أثر بعد عين وأما الخلوة المعروفة المعهودة فليست مقاما ولا تصح إلا لمحجوب وأما أهل الكشف فلا تصح لهم خلوة أبدا فإنهم يشاهدون الأرواح العلوية والأرواح النارية ويرون الكائنات ناطقة أكوان ذاته وأكوان بيت خلوته فهو في ملأ كما هو في نفس الأمر فإذا أخذ الله عن بصره هذه المدركات وفصل بين الحيوان والجماد والملائكة وعالم الصمت من عالم الكلام وعالم السكون من عالم الحركات ويحب أن يخلو بربه حتى لا يشغله عنه نطق كون ولا حركة كون فمنهم من يطلب الخلوة لمزيد علم بالله من الله لا من نظره وفكره وهذا أتم المقاصد فإنه مأمور بذلك والعمل على الأمر الإلهي هو غاية كمال العمل والله يقول له قل رب زدني علما فمن تحدث في خلوته في نفسه مع كون من الأكوان فما هو في خلوة قال بعضهم لصاحب خلوة اذكرني عند ربك في خلوتك فقال له إذا ذكرتك فلست معه في خلوة ومن هنا تعرف قوله تعالى أنا جليس من ذكرني فإنه لا يذكره حتى يحضر المذكور في نفسه إن كان المذكور ذا صورة في اعتقاده أحضره في خياله وإن كان من غير عالم الصور أو لا صورة له أحضرته القوة الذاكرة فإن القوة الذاكرة من الإنسان تضبط المعاني والقوة المتخيلة تضبط المثل التي أعطتها الحواس أو ما تركبه
(١٥١)