وتشق عليها ونفس ترغب في الحياة الدنيا لتزيد بذلك طاعة وأفعالا مقربة ومعرفة إلهية وترقيا دائما مع الأنفاس فشق عليها مفارقة الحياة الدنيا فلهذا سمي جهادا في حق الطائفتين فأما المجاهدون في سبيل الله وهي الطريق إلى الله أي إلى الوصول إليه من كونه إلها فهو جهاد لنيل معرفة المرتبة التي عنها ظهر العالم والأحكام فيه وعنها تكون الخلائف في الأرض فينا لهم في هذه السبل من المشقة ما يناله المسافر في طريقه المخوفة فإنه في طريق عرض نفسه في السلوك فيه إلى إتلاف ماله ونفسه ويتم أولاده وفقد مألوفاته قال تعالى وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقال يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ولما علم الله من العباد أنه يكبر عليهم مثل هذا لدعواهم أن نفوسهم وأموالهم لهم كما أثبتها الحق لهم والله لا يقول إلا حقا فقدم شراء الأموال والنفوس منهم حتى يرفع يدهم عنها فبقي المشتري يتصرف في سلعته كيف يشاء والبائع وإن أحب سلعته فالعوض الذي أعطاه فيها وهو الثمن أحب إليه مما باعه فقال إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم وبعد هذا الشراء أمر أن يجاهد بها في سبيل الله ليهون ذلك عليهم فهم يجاهدون بنفوس مستعارة أعني النفوس الحيوانية القائمة بالأجسام والأموال مستعارة فهم كمن سافر على دابة معارة ومال غيره وقد رفع عنه الحرج مالكها عند ما أعاره إن نفقت الدابة وهلك المال فهو مستريح القلب فما بقي عليه مشقة نفسية إن كان مؤمنا إلا ما يقاسي هذا المركب الحيواني من المشقة من طول الشقة وتعب الطريق وإن كان في قتال العدو فما ينال من الكر والفر والطعن بالأرماح والرشق بالسهام والضرب بالسيوف والإنسان مجبول على الشفقة الطبيعية فهو يشفق على مركوبه من حيث إنه حيوان لا من جهة مالكه فإن مالكه قد علم منه هذا المعبر أنه يريد إتلافه فذلك محبوب له فلم يبق له عليه شفقة إلا الشفقة الطبيعية فالنفوس التي اشتراها الحق في هذه الآية إنما هي النفوس الحيوانية اشتراها من النفوس الناطقة المؤمنة فنفوس المؤمنين الناطقة هي البائعة المالكة لهذه النفوس الحيوانية التي اشتراها الحق منها لأنها التي يحل بها القتل وليست هذه النفوس بمحل للإيمان وإنما الموصوف بالإيمان النفوس الناطقة ومنها اشترى الحق نفوس الأجسام فقال اشترى من المؤمنين وهي النفوس الناطقة الموصوفة بالإيمان أنفسهم التي هي مراكبهم الحسية وهي الخارجة للقتال بهم والجهاد فالمؤمن لا نفس له فليس له في الشفقة عليها إلا الشفقة الذاتية التي في النفس الناطقة على كل حيوان وأما المجاهدون الذين لم يقيدهم الله بصفة معينة لا في سبيل الله ولا فيه ولا بحق جهاد فهم المجاهدون بالله الذي ليس من صفته التقييد فجهاده في كل شئ وهو الجهاد العام ونسبة الجهاد إليه فيه الذي هو المشقة لكونه سماه مجاهدا ولم يقيد فيما ذا يجاهد فهو حكم القضاء والقدر في الأشياء التي يحصل منه الكرة في المقضي عليه بما قضى به عليه والحق لا يريد مساءته لما له بهذا العبد من العناية فقال في هذا المقام ما ترددت في شئ أنا فاعله ترددي في قبض نسمة عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له من لقائي يقول ولا بد له من الموت لما سبق به العلم فيقبضه عن مجاهدة مطلقة غير مقيدة بأذى ولا غيره ولكن تنبيهه تعالى بالتردد دليل على حكم مناسب حكم المجاهدة فإنه ما جاء به إلا ليقيدنا العلم بالأمر على ما هو عليه فإنه سبحانه المعلم عباده العلم وهو قوله وقال الذين أوتوا العلم وهو الذي أعطاهم العلم من اسمه الرحمن الذي قال فيه علم الإنسان ما لم يعلم فالمجاهدون من العباد الذين لا يتقيدون كما أطلقهم الله هم المترددون في الأفعال الصادرة أعيانها فيهم هل ينسبونها إلى الله ففيها ما لا ينبغي أن ينسب إليه أدبا وتبرأ الحق منها كما قال براءة من الله أو ينسبونها لأنفسهم ففيها ما ينبغي أن ينسب إلى الله أدبا مع الله ونسبة حقيقية ورأوا الله يقول وما رميت إذ رميت فنفى وأثبت عين ما نفى ثم قال ولكن الله رمى فجعل الإثبات بين نفيين فكان أقوى من الإثبات لما له من الإحاطة بالمثبت ثم قال وليبلي المؤمنين في نفس هذه الآية فعلمنا أن الله حير المؤمنين وهو ابتلاؤه بما ذكر من نفي الرمي وإثباته وجعله بلاء حسنا أي إن نفاه العبد عنه أصاب وإن أثبته له أصاب وما بقي إلا أي الإصابتين أولى بالعبد وإن كان كله حسنا وهذا موضع الحيرة ولذلك سماه بلاء أي موضع اختبار فمن أصاب الحق وهو مراد الله أي الإصابتين أو أي الحكمين أراد حكم النفي أو حكم الإثبات كان أعظم عند الله من الذي لا يصيب ذلك فهؤلاء هم المجاهدون الذين فضلهم الله على القاعدين عن هذا النظر أجرا عظيما وما عظم الله فلا يقدر قدره
(١٤٧)