بنت محمد انظري لنفسك لا أغنى عنك من الله شيئا وقال مثل هذه المقالة لجميع الأقربين وكان عمه أبو لهب حاضرا فنفخ في يده وقال ما حصل بأيدينا مما قاله شئ وصدق أبو لهب فإنه ما نفعه الله بإنذاره ولا أدخل قلبه منه شيئا لما أراد به من الشقاء فأنزل الله فيه تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب فإنه كان معتمدا على ماله فمن اعتمد على غير الله في أموره خسر والقائلون بالأسباب إذا اعتمدوا عليها وتركوا الاعتماد على الله لحقوا بالأخسرين أعمالا وإذا أثبتوا الأسباب واعتمدوا على الله ولم يتعدوا فيها منزلتها التي أنزلها الله فيها فأولئك الأكابر من رجال الله الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وأثبت لهم الحق الرجولة في هذا الموطن ومن شهد له الحق بأمر فهو على حق في دعواه إذا ادعاه ومن أثبت الأسباب بإثبات الحق وركن إليها ركون الطبع واضطرب عند فقدها في نفس الاعتماد على الله فذلك من متوسط الرجال وإذا وقع الاضطراب في النفس فإن أحس بالفقد واضطرب المزاج فذلك من خصائص الرجال الأكابر وإن لم يضطرب المزاج ولم يحس بالفقد فذلك حال الاعتماد على الله وهو مقام المتوسطين أصحاب الأحوال ومن هذا المنزل قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة لما وقف بين يديه رجل ممن كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد قتله فلما قضى حاجته منه وانصرف قال النبي صلى الله عليه وسلم لم لم تقتلوه حين وقف بين يدي فقال له أصحابه هلا أومأت إلينا بطرفك فقال صلى الله عليه وسلم ما كان لنبي أن تكون له خائنة عين وهي حالة لا يسلم منها وغاية إن يسلم منها من سلم في الشر وأما في الخير فإنهم ربما اتخذوها في الخير طريقا محمودة فيؤمي الكبير في حق الحاضر إلى بعض من يمتثل أمره أن يجئ إليه بخلعة أو بمال يهبه لذلك الحاضر يكون ذلك إيماء بالعين لا تصريحا باللفظ من غير شعور من يومى في حقه بذلك الخير ولا يقع مثل هذا وإن كان خيرا من نبي وسببه أن لا تعتاده النفس فربما تستعمله في الشر لاستصحابها إياه في الخير إذ كانت النفس من طبعها أن تسترقها العادة وإنما سميت خائنة عين لأن الإفصاح عما في النفس إنما هو لصفة الكلام ليس هو من صفة العين وإن كان في قوة العين الإفصاح بما في النفس بالإشارة ولكن إنما لها النظر والذي عندها من صفة الكلام إنما هو أمانة بيدها للكلام فإذا تصرفت في تلك الأمانة بالإيماء والإشارة لمن تومئ إليه في أمر ما فقد خانت الكلام فيما أمنها عليه من ذلك فلهذا سميت خائنة الأعين فوصفت بالخيانة والخيانة التصرف في الأمانة فإن الأمانة ليست بملك لك وإنك مأمور بأدائها إلى أهلها فإذا اقتضى المنزل الأمر بخير وشر في حق شخص وفي قوة العين الإفصاح عن ذلك لمن يشير إليه به فعلمت إن ذلك صفة للكلام فلم تفعل وردت تلك الأمانة إلى اللسان فنطق فقد أدت هذه العين الأمانة إلى أهلها ولم تخن فيها قال تعالى يعلم خائنة الأعين أي يعلم أنها خيانة وكيف هي خيانة ولم يقل يعلم ما أشارت به الأعين وما أومأت فإن المشار إليه يعلم ذلك فلا يكون مدحا ولكن لا يعلم كل أحد أنها خيانة إلا من أعلمه الله بذلك وقد أعلمنا بها فعلمناها فهي في الخير خيانة محمودة وفي الشر خيانة مذمومة وما زالت عن كونها خيانة في الحالين وبعد أن بينا لك هذا الأمر فتحفظ منها ما استطعت أن تفعلها مع الحضور فإنك لست بمعصوم فاستعمل الحضور عسى تفوز بهذا المقام فإن قلت قد أشارت من شهد لها بالكمال ومنعت من الكلام وهي مريم إلى عيسى إن يسألوه عن شأنه قلنا بعد ذلك نالت الكمال لا في ذلك الوقت ألا ترى زكريا قيل له آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا والرمز ما يقع بالإشارة فإن الإشارة صريحة في الأمر المطلوب بل هي أقوى في التعريف من التلفظ باسم المشار إليه في مواطن يحتاج المتكلم فيها إلى قرينة حال حتى لو قال شخص لآخر كلم زيدا بكذا وكذا وزيد حاضر احتمل أن يفهم عنه السامع زيدا آخر غير هذا والمتكلم إنما أراد الحاضر فإذا ترك التلفظ باسمه وأشار إليه بيده أو بعينه فقال كلم هذا مشيرا إليه كان أفصح وأبعد من الإبهام والنكر والحرف إنما هو لفظ مجمل يحتمل التوجيه فيه إلى أمور مثل ما رمز الشاعر في التعريف بالنار من غير إن يسميها فقال وطائرة تطير بلا جناح * وتأكل في المساء وفي الصباح وتمشي في الغصون لها صياح * وهز في الحسام لدى الكفاح تفر الأسد منها في الفيافي * وتغلب للصوارم والرماح
(٦١١)