تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ويلحق بهذا الباب طوائف ممن أوجب أكثر العلماء عليهم العذاب وحكموا عليهم بالشقاء من غير دليل واضح يفيد العلم فأنزلوهم منازل الأشقياء بالظن والقطع على غير علم في نفس الأمر فالإله لا يكون بالحسبان فثبت بما ذكرناه أنه من ظن لم ينج من عذاب في الإله فإن قيل يقول الله أنا عند ظن عبدي بي قلنا له هو مذهبنا فإنه قال بي فقد أثبته وما قال أنا عند ظن العبد بمن جعله إلها فمتعلق الظن كان عنده بالله فيما يظنه من سعادة أو شقاء فإنه عالم بالله صاحب ظن في مؤاخذته على الذنب أو العفو عنه وبعد أن تقرر هذا فلتعلم إن الجنة جنتان جنة حسية وجنة معنوية فالمحسوسة تتنعم بها الأرواح الحيوانية والنفوس الناطقة والجنة المعنوية تتنعم بها النفوس الناطقة لا غير وهي جنة العلوم والمعارف ما ثم غيرهما والنار ناران نار محسوسة ونار معنوية فالنار المحسوسة تتعذب بها النفوس الحيوانية والنفوس الناطقة والنار المعنوية تتعذب بها النفوس الناطقة لا غير والفرق بين النعيمين والعذابين إن العذاب الحسي والنعيم الحسي يكون بالمباشرة للذي يكون عن مباشرته الألم القائم بالروح الحيواني والعذاب المعنوي لا يكون بمباشرة للنفوس الناطقة وإنما هو بما حصل لها من العلم بما فاتها من العمل والعلم المؤدي إلى سعادة الروح الحيواني الذي يتضمن سعادة النفس الناطقة وأما نار الفكر الذي يتعلق ألمه بالحس وبالنفس فهي نار معنوية فإن حصل العلم عنها أعقبها نعيم جنة معنوية وإن لم يحصل العلم عنها لم يزل صاحبها معذبا ما دام مفكرا ولا نعيم له معنوي وإذا زال الفكر عنه بأي وجه زال من غير حصول علم فذلك النعيم الذي تجده النفس إنما هو الراحة من فقد نار التفكر المسلط على قلبه فهي راحة حسية لا معنوية فاعلم ذلك واعلم أن هذا المنزل يتضمن علم عقل ما ليس بحيوان في الإدراك الحس العادي عن الله تعالى ما يأمره به مثل قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وقوله تعالى فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فجمعهما جمع من يعقل وأثبت لها ما أثبت للحي العالم السميع القادر وقوله تعالى عليهم نار مؤصدة فأخبر أنها مسلطة ولا يقبل التسليط إلا من يعقل وأنها محرقة بالطبع فإنه لو لم تحرق بالطبع ما قبلت الإرسال على الكفار إذ لو كان الحرق فيها بغير الطبع لما تصورت منها المخالفة لأن المخالف إنما هو الاحتراق فهو أمر آخر يفتقر وجوده إلى إيجاد موجدة والحق ما خاطب إلا النار والإحراق عرض والعرض يفتقر إلى وجود في غير عين النار فإنه إن وجد في النار فإنه لا ينتقل إلى الجسم المسلط عليه النار لأن العرض لا ينتقل إذ لو انتقل لخلا عن المحل وقام بنفسه والعرض لا يقوم بنفسه فمن المحال تحريق الجسم المحرق بالنار فيكون خطاب النار بالإحراق عبثا وقد وقع الخطاب على النار بالتسليط فعلى من وقع فبطل إن يكون الحق يتكلم بالعبث فكيف يخرج هذا الخطاب وعلى من يقع إذا لم يكن الإحراق للنار بالطبع وهكذا كل جماد ونبات وحيوان خوطب لا بد أن يكون حيا عاقلا قابلا لما يخاطب به من شأنه أن يعقل ما قيل له افعل قبولا ذاتيا تابعا لوجود عينه فهذا قد نبهتك على هذا النوع من الإدراك الذي يتضمنه هذا المنزل واعلم أن جميع ما يحويه هذا المنزل من العلوم لا يوصل إليها إلا بالتعريف الإلهي بوساطة روحانية الأنبياء لهذا المكاشف وتلك الأرواح لا يعلمها من الله إلا بوسائط لغموضها ودقتها فمن جملة ما يحويه علم كسر المكسور إلى ما لا نهاية له ومعلوم من طريق العقل إن المكسور محصور فهو متناه لنفسه فكيف يقبل الكسر إلى ما لا يتناهى وهذه مسألة تشبه بمسألة انقسام الجسم إلى ما لا نهاية له عقلا لا حسا عند الحكماء لإبطال إثبات الجوهر الفرد الذي تنتهي إليه قسمة الجسم في مذهب المتكلمين فمن هذا المنزل تعرف الحق عند من هو من هاتين الطائفتين وتطلع من هذا المنزل على علم قيام العذاب وحمله في غير أجسام المعذبين وعذاب المعذبين به مع كونه غير قائم بهم وهو من أشكل المسائل كيف يوجب المعنى حكمه لغير من قام به فتشبه أيضا هذه المسألة مسألة من يقول إن الله إذا أراد أن يمضي أمرا خلق إرادة لا في محل ثم أراد بها إمضاء ذلك الأمر فقد أوجب المعنى حكمه لمن لم يقم به عند مثبتي الصفات أعيانا لها أحكام وهم المتكلمون والفرق بين هذه المسألة وبين مسألتنا أن العذاب محمول في أجسام وحكمه في أجسام أخر غير الأجسام القائم بها العذاب والعذاب المحمول في هذه الأجسام لا تتعذب به وهو قائم بها وهي متصفة به من كونها محلا
(٦١٣)