هذا يقع التعجب مع وجود العقل عندهم فوقع التعجب من ذلك ليعلم من حجب العقول عن إدراك ما هو لها بديهي وضروري ذلك لتعلموا إن الأمور بيد الله وأن الحكم فيها لله وأن العقول لا تعقل بنفسها وإنما تعقل ما تعقله بما يلقي إليها ربها وخالقها ولهذا تتفاوت درجاتها فمن عقل مجعول عليه قفل ومن عقل محبوس في كن ومن عقل طلع على مرآته صدا فلو كانت العقول تعقل لنفسها لما أنكرت توحيد موجدها في قوم وعلمته من قوم والحد والحقيقة فيهما على السواء فلهذا جعلنا قوله تعالى إن هذا لشئ عجاب ليس من قول الكفار فاعلم يا أخي أن هذا المنزل هو منزل من منازل الستر والكتمان وتقرير الألوهة في كل من عبد من دون الله لأنه ما عبد الحجر لعينه وإنما عبد من حيث نسبة الألوهة إليه ولهذا ذكرنا أنه من منازل الكتمان والستر قال تعالى وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فما ذكروا قط إلا الألوهية وما ذكروا لأشخاص ولكن لم يقبل الله منهم العذر بل قال إنكم وما تعبدون من دون الله أي الذي انفرد بهذا الاسم حصب جهنم وهو قوله وقودها الناس والحجارة وهو كل من دعاكم إلى عبادة نفسه أو عبدتموه وكان في وسعه أن ينهاكم عن ذلك فما نهاكم فمثل هؤلاء يكونون من حصب جهنم فالموحد يعبد الله من طريقين من طريق الذات من كونها تستحق وصف الألوهة ومن طريق الألوهة فالسعيد الجامع بينهما لأن العابد مركب من حرف ومعنى فالحرف للحرف والمعنى للمعنى فلذلك لم نعبد الذات معراة عن وصفها بالألوهية ولم تعبد الألوهية من غير نسبتها إلى موصوف بها فلم تقم العبادة إلا على ما نقتضيه حقيقة العبد وهو التركيب لا على ما تقتضيه حقيقة الحق وهو الأحدية ولهذا يكون القائل في عبادته وفاء لحق الله غير مصيب إذا أراد الذات فإن حقيقتها الأحدية وقد يمكن أن يصح قول من قال إنما أعبده وفاء لحق الربوبية لا لحقيقتها إذ كل حق له حقيقة فالحق من ذلك به تتعلق العبادة من العابد والحقيقة هي الأحدية التي لا تتعلق ولا يتعلق بها ولهذا كانت الألف في الوضع الإلهي بالخط العربي إذا تقدمت في الكلمة لا تتصل ولا يتصل بها وإذا تأخرت اتصل بها بعض الحروف ممن لا علم له بالأحدية المطلقة التي تستحقها هذه الذات إلا خمسة أحرف لا غير من جميع الحروف وهي الدال والذال والراء والزاي والواو وهي خمسة أحوال من اتصف بها عرف الأحدية وكانت عبادته ذاتية لم يقترن بها أمر وهي عبادة المعنى للمعنى فإن الأمر عبادة الحرف للحرف فلا يخطر لعابد المعنى فرق بين الذات والألوهية ولا كثرة بل يرى عينا واحدة تستحق ما هو عليه هذا العارف من حيث معناه لا من حيث حرفه وهذا مقام الجلال والعظمة وأحدية العبد التي أعطته معرفة الأحدية الذاتية والتنزيه والغني فهذه أحوال خمسة تدل عليها الحروف الخمسة التي لا تتصل بها الألف الواقعة في أواخر الكلم مثل جبيرا وعزيزا وأحدا وإذا وعلوا فدلت الألف في أول الكلمة من عدم الاتصال على قوله كان الله ولا شئ معه وهو على ما عليه كان مع وجود الأشياء من عدم الاتصال كما لم تتصل الألف بالكلمة ودل عدم اتصال الحروف الخمسة بها في آخر الكلمة على حال معرفة مقام بعض العباد من العلماء بالله دون غيرهم حيث رفعوا النسبة بينهم وبين الله تعالى وأنهم مشاهدون لما ذكرناه من الجلال والعظمة والأحدية والتنزيه والغني وما عدا هذه الطائفة جعلوا نسبة ورابطة بين الإله والمألوه وما فرقوا بين المرتبة والذات لما لم يعرفوا الله إلا من نفوسهم بحكم الدلالة لاستناد الممكن إلى المرجح فطلبوه وطلبهم ولهم من الحروف كل حرف اتصل بالألف في آخر الكلمة ولهؤلاء الأكابر أيضا قسم وحظ وافر في منزل هذه الحروف التي اتصلت من حيث حرفيتهم لا من حيث معناهم وهؤلائك جهلوا هذا القدر الفارق بينهم لكنهم ستروا ذلك عن العامة وانفردوا به عن أشكالهم يختص برحمته من يشاء ولأجل هذا قال الجنيد سيد هذه الطائفة لا يبلغ أحد درج الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق بأنه زنديق فإن هذا المقام يضر بمن ليس من أهله كما يضر رياح الورد بالجعل لأن الحال التي هم عليها لا تقبل هذا المقام ولا يقبلها فإذا رآهم الناس في العموم لم يعرفوهم لأنه ليس على حرفهم أمر ظاهر يتميز به عن العامة وإذا رآهم الناس في الخصوص كالفقهاء وأصحاب علم الكلام وحكماء الإسلام قالوا بتكفيرهم وإذا رآهم الحكماء الذين لم يتقيدوا بالشرائع المنزلة مثل الفلاسفة قالوا إن هؤلاء أهل هوس قد فسدت خزانة خيالهم وضعفت عقولهم
(٥٩١)