فبغداد داري لا أرى لي موطنا * سواها فإن عزت جنحت إلى مصري هذا المقام دخلته في شهر محرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأنا مسافر بمنزل ابحيسل ببلاد المغرب فتهت به فرحا ولم أجد فيه أحدا فاستوحشت من الوحدة وتذكرت دخول أبي يزيد بالذلة والافتقار فلم يجد في ذلك المنزل من أحد وذلك المنزل هو موطني فلم أستوحش فيه لأن الحنين إلى الأوطان ذاتي لكل موجود وأن الوحشة مع الغربة ولما دخلت هذا المقام وانفردت به وعلمت أنه إن ظهر علي فيه أحد أنكرني فبقيت أتتبع زواياه ومخادعه ولا أدري ما اسمه مع تحققي به وما خص الله به من أتاه إياه ورأيت أوامر الحق تترى علي وسفراؤه تنزل إلي تبتغي مؤانستي وتطلب مجالستي فرحلت وأنا على تلك الحال من الاستيحاش بالانفراد والأنس إنما يقع بالجنس فلقيت رجلا من الرجال بمنزل يسمى آنحال فصليت العصر في جامعة فجاء الأمير أبو يحيى بن واجتن وكان صديقي وفرح بي وسألني أن أنزل عنده فأبيت ونزلت عند كاتبه وكانت بيني وبينه مؤانسة فشكوت إليه ما أنا فيه من انفرادي بمقام أنا مسرور به فبينا هو يؤانسني إذ لاح لي ظل شخص فنهضت من فراشي إليه عسى أجد عنده فرجا فعانقني فتأملته فإذا به أبو عبد الرحمن السلمي قد تجسدت لي روحه بعثه الله إلى رحمة بي فقلت له أراك في هذا المقام فقال فيه قبضت وعليه مت فإنا فيه لا أبرح فذكرت له وحشتي فيه وعدم الأنيس فقال الغريب مستوحش وبعد أن سبقت لك العناية الإلهية بالحصول في هذا المقام فاحمد الله ولمن يا أخي يحصل هذا ألا ترضى أن يكون الخضر صاحبك في هذا المقام وقد أنكر عليه موسى حاله مع ما شهد الله عنده بعدالته ومع هذا أنكر عليه ما جرى منه وما أراه سوى صورته فحاله رأى وعلى نفسه أنكر وأوقعه في ذلك سلطان الغيرة التي خص الله بها رسله ولو صبر لرأى فإنه كان قد أعد له ألف مسألة كلها جرت لموسى وكلها ينكرها على الخضر قال شيخنا أبو النجا المعروف بأبي مدين لما علم الخضر رتبة موسى وعلو قدره بين الرسل امتثل ما نهاه عنه طاعة لله ولرسوله فإن الله يقول وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فقال له في الثانية إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني فقال سمعا وطاعة فلما كانت الثالثة ونسي موسى حالة قوله إني لما أنزلت إلي من خير فقير وما طلب الإجارة على سقايته مع الحاجة فارقه الخضر بعد ما أبان له علم ما أنكره عليه ثم قال له وما فعلته عن أمري لأنه كان على شرعة من ربه ومنهاج وفي زمانها بخلاف حاله بعد بعث محمد ص فإنه الفرا كل الصيد في جوفه فقلت له يا أبا عبد الرحمن لا أعرف لهذا المقام اسما أميزه به فقال لي هذا يسمى مقام القربة فتحقق به فتحققت به فإذا به مقام عظيم لعلماء الرسوم من أهل الاجتهاد فيه قدم راسخة لكنهم لا يعرفون أنهم فيه ورأيت الإمداد الإلهي يسرى إليهم من هذا المقام ولهذا ينكر بعضهم على بعض ويخطئ بعضهم بعضا لأنهم ما حصل لهم ذوقا ولا يعلمون ممن يستمدون مشاهدة وكشفا فكل واحد منهم على حق كما أنه لكل نبي تقدم هذا الزمان المحمدي شرعة ومنهاج والايمان بذلك كله واجب على كل مؤمن وإن لم نلتزم من أحكامهم إلا ما لزمناه فالمجتهدون من علماء الشريعة ورثة الرسل في التشريع وأدلتهم تقوم لهم مقام الوحي للأنبياء واختلاف الأحكام كاختلاف الأحكام إلا أنهم ليسوا مثل الرسل لعدم الكشف فإن الرسل يشد بعضهم من بعض وكذلك أهل الكشف من علماء الاجتهاد وأما غير أهل الكشف منهم فيخطئ بعضهم بعضا ولو قال الخضر لموسى من أول ما صحبه ما أفعل شيئا مما تراني أفعله عن أمري ما أنكره عليه ولا عارضه ولقد أنطقه الله بقوله ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا والصبر لا يكون إلا على ما يشق عليه فلو قدم الصبر على المشيئة كما يفعل المحمدي لصبر ولم يعترض فإن الله قدمه في الإعلام تعليما لمحمد ص فمن أراد أن يحصل علم الله في خلقه فليقف عند ترتيب حكمته في الأشياء فيقدم ما قدم الله ويؤخر ما أخر الله فإن من أسمائه المقدم والمؤخر فإذا أخرت ما قدمه أو قدمت ما أخره فهو نزاع خفي يورث حرمانا قال تعالى ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله فأخر الاستثناء وقدمه موسى فلم يصبر فلو أخره لصبر وهذه الآية مذكورة باللسان العبراني في التوراة فالله الله يا إخواننا من أهل هذه الملة المحمدية قفوا على مشاعر الله التي بينها لكم ولا تتعدوا ما رسم لكم ألا تراه ص لما صعد على الصفا في حجة الوداع قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله ثم قال أبدأ بما بدأ الله به وما قال ذلك إلا تعليما لنا ولزوم
(٢٦١)